إعلان

متى يبطل الشك البصيرة؟

أ.د/ عبدالمؤمن شجاع الدين
الأستاذ بكلية الشريعة والقانون – جامعة صنعاء

◐ البصيرة أو الحجة هي الوثيقة التي تثبت شراء المشتري للعقار، وعلى هذا الأساس فإن البصيرة دليل إثبات ملكية المشتري، ومن ضمن قواعد الإثبات أن الدليل اذا تطرق إليه الاحتمال سقط به الاستدلال، ولكن ليس كل شك أو احتمال يسقط حجية البصيرة الا اذا تظافرت هذه الشكوك أو كان أحدها قويا مؤثرا، فعندئذ لامناص من بطلان حجية البصيرة للشك فيها ، حسبما قضى الحكم الصادر عن الدائرة المدنية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 14-1-2012م في الطعن رقم (47055)، الذي ورد ضمن أسبابه: ((وحيث أن الثابت من الأوراق أن الشعبة قد ناقشت الأدلة مناقشة تفصيلية، ومن ذلك البصيرة المؤرخة 1394هـ المبرزة من الطاعن، وابانت الشعبة في حكمها عن وجه الرأي بعدم صحة البصيرة لما شابها من إصلاح اسم الموضع وتناقض البصيرة مع المحرر المؤرخ 1413هـ المبرز من الطاعن نفسه، ولما كان المقرر أن الشك في المستند يبطل الاحتجاج به، فإن ما قضى به الحكم الاستئنافي موافق للقانون سيما أن الشعبة قد قامت بإحضار كاتب البصيرة ولم يتبين للشعبة حالة الكاتب لعدم تقديم أي برهان يثبت عدالته أو أنه ممن يقوم بتحرير العقود والمعاملات، لذلك فإن الحكم الاستئنافي قد جاء موافقاً للشرع والقانون))، وسيكون تعليقنا على هذا الحكم حسبما هو مبين في الأوجه الأتية:

إعلان

الوجه الأول: ماهية البصيرة:

◐البصيرة: هي الوثيقة التي تثبت شراء المشتري للعقار، إذ يتم إفراغ عقد البيع العقاري في البصيرة لإثبات البيع وإنتقال المبيع العقاري إلى المشتري، فالبصيرة: هي وثيقة إثبات إنتقال ملكية العقار بالبيع إلى الحائز للبصيرة، وتتضمن البصيرة بيانات عقد البيع كبيانات البائع والمشتري والمبيع والثمن ، فتتضمن البصيرة بيانات المبيع من حيث مساحته وموقعه ونوعه وحدوده وكذا بيانات الثمن من حيث مقداره ونوعه وطريقة دفعه، وكذا تتضمن البصيرة البيانات الشخصية عن كل من البائع والمشتري وشروطهما إضافة إلى البيانات الشخصية الخاصة بالشهود وكاتب العقد أو البصيرة وتاريخ تحرير البصيرة ومقدار السعاية واجور الكتابة حتى تكون البصيرة وثيقة كافية ومستقلة في إثبات الشراء العقاري دون حاجة إلى مستندات أخرى ، ويتم الإعتماد عند تحرير البصيرة وتدوين البيانات الواردة فيها يتم الإعتماد في ذلك على المستندات المعدة قانونا للاثبات، فيتم الإعتماد على البيانات الواردة في البطائق الشخصية بالنسبة لتدوين بيانات البائع والمشتري والشهود ويتم الإعتماد في كتابة بيانات المبيع على مستند ملكية البائع، فيجب ان تتطابق بيانات المبيع فيما بين البصيرة ومستند ملكية البائع والبيانات التي يتضمنها التعطيل في ظهر مستند الملكية ، وفي الوقت الحاضر يتولى تحرير البصيرة الأمين الشرعي أو الموثقين العاملين في مكاتب وأقلام التوثيق وفقاً لما هو مقرر في قانون التوثيق، وفي بعض الحالات يتم تسجيل البصيرة في السجل العقاري لدى الهيئة العامة للأراضي، وتكون البصيرة محرراً رسمياً بعد أن يتم توثيقها لدى قلم التوثيق المختص وفقا لما هو مقرر في قانون التوثيق، فتكون البصيرة في هذه الحالة حجة على طرفي عقد البيع، بيد انها لاتكون لها الحجية في مواجهة الكافة الا بعد تسجيلها في السجل العقاري حسبما سيأتي بيانه .

الوجه الثاني : حجية البصيرة السليمة من الشكوك :

◐البصيرة الموثقة لدى قلم التوثيق تكون محررا رسيماً ملزماً لطرفيه بموجب قانون التوثيق وقانون الإثبات، اما البصيرة التي يتم تسجيلها في السجل العقاري فتكون محررا رسمياً وتكون لها حجيتها المطلقة في مواجهة البائع والمشتري بل في مواجهة الكافة حسبما نص عليه قانون السجل العقاري، في حين تكون البصيرة التي لم يتم توثيقها أو تسجيلها محرراً عرفياً بموجب قانون الإثبات وقانون التوثيق، والمحرر العرفي تكون له حجيته في مواجهة البائع والمشتري، فالبصيرة العرفية عبارة عن إخبار كاتبها بوقوع البيع والشراء فيما بين البائع والمشتري وانعقاده بالإيجاب والقبول والتراضي وقبض الثمن، وبموجب ذلك فقد تضمنت البصيرة العرفية كافة اركان وشروط عقد البيع المعتبرة شرعاً وقانوناً.

img 9572
فضلا تابعنا على تيليجرام أو جوجل نيوز:

الوجه الثالث : الوضعية الواقعية والقانونية للبصيرة :

◐ البصيرة هي محرر مكتوب يتضمن البيانات الرئيسية لعقد البيع العقاري واركانه وشروطه كاسم البائع والمشتري ومحل البيع والثمن وشهود البيع وكاتبه وتاريخ البيع.

والبصيرة بشكلها وصيغتها الحالية مستقرة منذ 950ه( عصر الإمام يحي بن محمد شرف الدين رحمه الله ) حتى الآن.
اما بالنسبة للبصيرة التي اشار إليها الحكم محل تعليقنا فقد كانت بصيرة قام بتحريرها كاتب غير معروف بأنه يقوم بكتابة عقود وتصرفات ومعاملات الناس في المنطقة، إضافة إلى أن ذلك الكاتب مجهول العدالة ، كما أنه لم يتم توثيق تلك البصيرة أو تسجيلها لدى السجل العقاري، علاوة على أنه كان هناك تعديل في اسم الموضع المدعى بيعه، فضلا عن ان البصيرة المشار إليها كانت متناقضة مع بصيرة أخرى تالية لها في التاريخ، وهذه الشكوك التي احاطت بتلك البصيرة جعلت الحكم محل تعليقنا يقضي ببطلانها .

اما البصيرة الموثقة لدى قلم التوثيق فتكون محررا رسيماً ملزماً لطرفيه بموجب قانون التوثيق وقانون الإثبات، في حين أن البصيرة التي يتم تسجيلها في السجل العقاري تكون محررا رسمياً وتكون لها حجيتها المطلقة في مواجهة البائع والمشتري بل في مواجهة الكافة حسبما نص قانون السجل العقاري، في حين تكون البصيرة التي لم يتم توثيقها أو تسجيلها محرراً عرفياً بموجب قانون الإثبات وقانون التوثيق، والمحرر العرفي اذا كان سليما خاليا من الشك تكون له حجيته في مواجهة البائع والمشتري حيث ان البصيرة العرفية عبارة عن إخبار كاتبها بوقوع البيع والشراء فيما بين البائع والمشتري وانعقاده بالإيجاب والقبول والتراضي وقبض الثمن، لأن البصيرة العرفية تتضمن كافة اركان وشروط عقد البيع المعتبرة شرعاً وقانوناً.

الوجه الرابع : البصيرة بين اليقين والشك:

◐الدليل اليقيني هو ما ورد في القرآن الكريم فقط، اما غير ذلك فهي عبارة عن أدلة تفيد الظن بما في ذلك البصائر السليمة، فهي أدلة ظنية قد تفيد الظن الغالب الذي يتم الإعتماد عليه والبناء عليه، وتكون البصيرة كذلك إذا كانت الأرض المذكورة في البصيرة في حيازة المشتري لمدة ثلاثين سنة وكانت حيازته هادئة مستقرة وإذا كانت البصيرة محررة بنظر قلم التوثيق أو الأمين الشرعي إذا كانت البصيرة من البصائر الحديثة أو كانت بخط كاتب معروف الخط مشهود له بالعدالة وإذا كانت الب صيرة خالية من الخدش والإضافة في بياناتها الجوهرية، اما إذا لم تكن البصيرة كذلك فإن تفيد الشك أو الظن الذي لا يغني من الحق شيئاً.

الوجه الخامس : مظاهر الشك في البصيرة:

◐تتجلى مظاهر الشك في البصيرة في مظاهر عدة من أهمها ما يأتي:

المظهر الأول: مدة حيازة صاحب البصيرة للأرض المبيعة منذ شرائه لها:
فالبصيرة الخالية من الحيازة تدل على أن المبيع لم ينتقل بالفعل إلى المشتري، لأن تمام البيع التسليم للأرض، وحيث أن صاحب البصيرة لم يحز الأرض، فإن ذلك يدل على عدم تمام البيع في الواقع، ونقصد بالحيازة هنا بالحيازة الحقيقية: وهي أن يستلم صاحب البصيرة العقار المبيع، ويندرج ضمن الحيازة أيضاً الحيازة الحكمية: وهي أن يقوم صاحب البصيرة بإعادة تأجير الأرض لمستأجر اخر أو للبائع نقسه فتصبح يد البائع يد مستأجر لصاحب البصيرة، مثلما كان يصنع أهل صنعاء القديمة حينما كانوا في الماضي يشتروا الأراضي من اصحابها المديريات المجاورة لصنعاء ثم يؤجروها للبائعين أنفسهم ، فالحيازة في هذه الحالة صحيحة تتم لحساب المشتري طالما والبائع الأصلي قد قام بإستئجار العقار من المشتري منه.

المظهر الثاني: الخدش والحشر والإضافة في البيانات الجوهرية للبصيرة:
كان الحكم محل تعليقنا قد قضى بعدم صحة البصيرة التي استدل بها الطاعن لوجود تعديل في اسم الأرض محل المبيع، لأن ذلك التعديل قد سرب الشك إلى البصيرة والشك في المستند يبطل الاحتجاج بالمستند حسبما قضى الحكم محل تعليقنا، فالتعديل بالحذف أو الحشر أو الإضافة يوجد الشك والاحتمال ويجعل العقل والقلب مترددان بشأن صحة البصيرة أو عدم صحتها، وهذا الشك يبطل الاحتجاج بها.

المظهر الثالث: تناقض البصيرة مع بصيرة أخرى:
فقد ابطل الحكم محل تعليقنا البصيرة المؤرخة عام 1394هـ التي استدل بها الطاعن، لأن هناك بصيرة أخرى مؤرخة عام 1413هـ مناقضة للبصيرة الأولى، والتناقض بين البصائر لا يكون تناقض إلا إذا كان في البيانات الجوهرية للبصيرة كاسم الموضع محل البيع أو اسم البائع أو المشتري أو حدود الأرض، والتناقض بين البصائر مظهر من مظاهر الشك في البصيرة ، لأن البصائر المتناقضة تكذب بعضها بعضاً مثلما وقع في القضية التي تناولها الحكم محل تعليقنا.

المظهر الرابع: تحرير البصيرة الحديثة من غير مختص أو تحرير البصيرة القديمة من غير كاتب عدل مشهور الخط :
فإذا تم تحرير البصيرة الحديثة من قبل كاتب غير مختص بتحرير العقود والمعاملات فإن ذلك يسرب الشك إليها حيث ترد احتمالات عدة بشأن البصيرة الحديثة التي يحررها كاتب غير مختص، وكذلك الحال إذا كانت البصيرة قديمة تمت نسبة تحريرها إلى كاتب خطه مجهول وغير معروف بالعدالة.

المظهر الخامس: عدم تضمين البصيرة أركان وشروط عقد البيع:
سبق القول بأن البصيرة عبارة عن إخبار كاتبها بتمام البيع والشراء للعقار المبيع، فالبصيرة عبارة عن وثيقة يتم من خلالها إثبات البيع والشراء للعقار، ومن المعلوم أن لعقد البيع أركان لا يقوم عقد البيع بدونها كصيغة الإيجاب والقبول والمحل والثمن والعاقدان أي البائع والمشتري، فإذا تخلف ركن من هذه الأركان إنعدم عقد البيع، وكذا هناك شروط في كل ركن من أركان عقد البيع، فإذا تخلف شرط من تلك الشروط بطل عقد البيع مثل شرط أن يكون المبيع موجوداً في ركن محل البيع وشرط سلامة الإرادة من العيوب بالنسبة لركن العاقدين البائع والمشتري، ولذلك فأنه إذا تخلف في البصيرة ركن أو شرط من شروط عقد البيع فإن ذلك يسرب الشك إلى البصيرة.

المظهر السادس: غموض البيانات الجوهرية للبصيرة:
سبق أن ذكرنا أن البيانات الجوهرية للبصيرة كاسم البائع والمشتري وتاريخ البيع واسم الموضع محل البيع ومساحته وحدوده، فإذا كانت البيانات الجوهرية المشار إليها غامضة بمعنى غير مقرؤه أو لا يستطيع قراءتها ومعرفة مضمونها فإن هذا الغموض يولد الشك إن لم يكن هو الشك ذاته.

المظهر السابع: كتابة البصيرة القديمة بخط وحبر حديث:
ففي العصور القديمة أو الماضية كانت هناك احبار وأوراق يتم استعمالها في تحرير العقود والتصرفات، وهذه الاحبار والأوراق تختلف تماماً عن الأحبار والأوراق المستعملة في العصر الحاضر، ولذلك فإن البصيرة القديمة المكتوبة بأوراق أو احبار حديثة تولد الشك في زوريتها.

المظهر الثامن: البصيرة السابقة الأم التي لم يتم تعطيلها:
من ضمن ثقافة التذاكي والمغالطة السائدة في المجتمع اليمني أن البائع يحتفظ ببعض وثائق العقارات التي يبيعها حتى يبتز المشتري أو يشغله لاحقاً، ولذلك يعمد بعض الأمناء الاذكياء إلى النص في بصيرة البيع على أن البائع قد سلم في المجلس إلى المشتري كافة الوثائق والمستندات الخاصة بالعقار المبيع وأنه إذا ظهرت أية وثيقة بعد ذلك فهي عاطلة لا يعمل ولا يحتج بها، ولذلك فإن ظهور وثيقة سابقة على البيع الصادر من البائع تكون باطلة سواء ابرزها البائع نفسه أو ابرزها ورثته أو خلفه العام من بعده مثلما حدث في القضية التي تناولها الحكم محل تعليقنا.

الوجه السادس: حجية البصيرة المشكوك بها:

◐قضى الحكم محل تعليقنا بأن الشك في المستند يبطل الاحتجاج به حسبما ورد في أسباب الحكم محل تعليقنا، وهذا يعني عدم حجية البصيرة التي يعتريها الشك، لأن الأحكام القضائية تقوم على القطع واليقين وليس على الشك والتخمين، فالحكم لا يكون عنواناً للحقيقة مالم تطمئن المحكمة إلى صحة وسلامة البصيرة التي يستند إليها الحكم ، فالبصيرة المشكوك في صحتها لا تولد الاطمئنان في نفس القاضي العادل.( مهارات الصياغة القانونية، ا. د. عبد المؤمن شجاع الدين، ص47)، والله اعلم.

منقول أ. أكرم محمد الردماني

إعلان

اترك هنا تعليقك وشاركنا رأيك