من أسبق السابقين إلى الإيمان هو عسكلان بن عواكن الحميري . قال عنه ابن حجر العسقلاني : كان عسكلان مِمَنْ بَشَر برسالة النبي ، ثم أدرك البعثة، وأرسل إلى النبي ﷺ بشعر يمدحه ويذكر فيه إسلامه (۱).
لقد كان عسكلان بن عواكن تاجراً كبيراً في مناطق حمير باليمن، وهي مناطق المعافر وذي رعين وسرو حمير التي كانت تسودها الديانة المسيحية التي بها كان يدين عسكلان وقد انتشرت الديانة المسيحية في مناطق حمير وغيرها منذ زمن الملك عبد كلال بن ذي رعين الحميري معاصر الملك الروماني قسطنسيوس بن قسطنطين الذي حكم في الفترة (۳۳۷ – (۳۷۰م) من القرن الرابع الميلادي، وفيه قال نشوان بن سعيد الحميري أم أين عبد كلال الماضي على دين المسيح الطاهر المساح وجاء في تاريخ الأمم والملوك أنه كان الملك عبد كلال بن مثوب على دين النصرانية الأولى، وكان الذي دعاه إليه رجل من غسان قدم عليه من الشام» (٢) ومنذ ذلك الزمن انتشرت المسيحية في مناطق واسعة من اليمن هي مناطق حمير في غرب ووسط وجنوب وشرق اليمن فاستمرت الديانة المسيحية هي السائدة بتلك المناطق إلى ما قبل الإسلام، وقد أشرنا إلى ذلك هنا لأن عسكلان بن عواكن الحميري كان مسيحياً وعارفاً بالإنجيل الصحيح وبزبور حمير القديم الذي فيه التبشير بالنبي محمد ﷺ وصفته وزمن ظهوره ومبعثه بمكة، فكان يتحدث عن ذلك في بعض الأحايين .
وكان عبد الرحمن بن عوف يأتي من مكة إلى اليمن للتجارة في الجاهلية فينزل عند عسكلان، وفي ذلك قال عبد الرحمن بن عوف : كنتُ إذا قدمت اليمن نزلت على عسكلان بن عواكن الحميري، فلا يزال يسألني عن مكة وأحوالها، وهل ظهر فيها مَنْ يُخالف دينهم أم لا فكان عبد الرحمن يجيبه بعدم ظهور أحد.
وقبل البعثة النبوية بسنة كان عسكلان قد بلغ من الكبر عتياً، وكان أولاده يتولون تجارته، فأتى عبد الرحمن بن عوف فنزل عنده، وفي ذلك قال عبد الرحمن بن عوف : سافرت إلى اليمن قبل المبعث بسنة، فنزلت على عسكلان بن عواكن ، وكان شيخاً كبيراً، قد أنسئ له في العمر فسأله عبد الرحمن عن أحواله، فقال عسكلان : إذا ما الشيخ صم فلم يكلم وأودى سَمْعَهُ إِلَّا بَدَايَا
فذاك الداء ليس له دواء سوى الموت الـمـنـطـق بـالــرزايا شهدت تبـابع الأملاك مِنَّا وأدركتُ المُوقف في القضايا (3) فـبـادوا أجـمـعـين، وصرْتُ حلساً صريعاً لا أبوح إلى الخلايا ولما سمع عبد الرحمن بن عوف ذلك الشعر من عسكلان، سأله عسكلان عن مكة وأحوالها، وهل ظهر فيها من خالف دين عبادة الأصنام بمكة أم لا فأجاب عبد الرحمن بعدم ظهور أحد، وكان ذلك قبل سنة واحدة من البعثة النبوية.
ثم بعث الله تعالى النبي ، وكان عسكلان يُتابع معرفة ذلك، سواء من خلال سؤال من يأتي من مكة، أو من خلال الذين يذهبون بالتجارة إلى مكة ويعودون، وربما كان يتحرى بعضهم بأن يأتوه بالخبر في حالة ظهور من يخالف عبادة الأصنام ويدعو إلى عبادة الله، فلما بعث النبي ﷺ عرف عسكلان بذلك خلال الشهر الأول من مبعث النبي ﷺ وكان عبد الرحمن بن عوف غائباً عن مكة، وأتى إلى اليمن في رحلته التجارية السنوية، ونزل – كما هي عادته ـ عند عسكلان .قال عبد الرحمن بن عوف قال لي عسكلان : حسبك، ألا أبشرك ببشارة هي خير لك من التجارة؟ فقُلتُ : بَلى . فقال عسكلان: أتيتك بالمعجبة، وبشرتك بالمرغبة، إن الله قد بعث في الشهر الأول نبياً ارتضاه صفياً، وأنزل عليه كتاباً وفياً، ينهى عن الأصنام ويدعو إلى الإسلام، يأمر بالحق ويفعله، وينهى عن الباطل ويبطله». «ثم قال عسكلان: يا عبد الرحمن وازرهُ وصَدِّقُهُ».
ولما قضى عبد الرحمن بن عوف عمله التجاري وتهيأ للعودة إلى مكة، أكد عليه عسكلان كلامه المتقدم، وأشار عليه بموازرة وتصديق النبي المبعوث، وأن يبلغه أبياتاً من الشعر قالها عسكلان وهي الأبيات التي ذكرها العسقلاني بأنه «أرسل إلى النبي ﷺ بشعر يمدحه ويذكر فيه إسلامه وذلك الشعر هو قول عسكلان :
أشْهَدُ بالله ذي المَعَالِي
وفالق الـلـيـل والــصــبــاح
إنك في الشرف من قريش
وابنُ المُفدى من الذباح
أُرْسِلْتَ تدعو إلى يقين
تُرشِدُ لـــلــــحـــق والــفـــلاح
هد كرور السنين ركني
عن المسير أو الرواح
أشهد بالله رب موســـــــى
أنك أرسـلـــت بــالـــبــطــاح
فكن شفيعي إلى مليك
يدعو البرايا إلى الصلاح
قال عبد الرحمن بن عوف : فقدمت مكة، فلقيت أبا بكر، وكان لي خليطاً(4) فأخبرته بخبر عسكلان، فقال: هذا محمد بن عبد الله بعثه الله إلى خلقه رسولاً، فائته. فأتيته وهو في بيت خديجة، فأخبرته بما قال عسكلان، (فقال النبي ﷺ: أما إن أخا حِمْيَر من خواص المؤمنين، ورب مؤمن بي ولم يرني، ومصدق بي وما شهدني، أولئك إخواني حقاً) (5) وقد عاش عسكلان إلى سنوات الهجرة، وهو أحد المعمرين» ـ أي الذين عاشوا عمراً طويلاً ـ قال العسقلاني : ولم يبلغنا أنه هاجر»(5) وهذه العبارة تحتمل أنه وفد إلى النبي الله ولكن لم يبلغنا خبر وفادته أو هجرته، وقد كان عسكلان من المبشرين والدعاة للإيمان برسول الله الله في مناطق حمير، ثم أسلم زرعة ذو يزن والحارث بن عبد كلال وأذواء حمير، فمات عسكلان بن عواكن راضياً مَرْضياً.
المصدر
(1) الإصابة في تمييز الصحابة – للعسقلاني – جـ ٣ ص ١٠٥.
(۲) تاريخ الأمم والملوك – للطبري – ج ۲ ص ٨٦ – وسيأتي تبيين التفاصيل في المبحث الخاص بالحارث بن عبد كلال .
(3) الموقف : اسم قاضي حميري كان يقضي بين الناس غالباً.
(4) خليطاً : أي شريكاً في التجارة.
(5) الإصابة – جـ ٣ ص ١٠٦ – والتاريخ الكبير لابن عساكر .
•يمانيون في موكب الرسول محمد حسين الفرح
ابو صالح العوذلي 2024