لا يجوز ان يقوم الحكم القضائي على انصاف الحلول
القاضي مازن امين الشيباني
▪️هذا المقال استحق ان اعيد نشره للمرة الثانية لانني وجدت حكما عن العليا قضى منطوقه بالاتي:-
١- عدم جواز نظر الطعن وعدم جواز مناقشة اسبابه
٢- الغاء الحكم الاستئنافي والحكم الابتدائي واعتبارهما كأن لم يكونا
٣- اعادة ملف القضية الى محكمة الاستئناف ومنه الى المحكمة الابتدائية لاعادة النظر في النزاع مجددا مع ادخال الدولة كطرف معني في النزاع.
هذا الحكم مكون من ثلاث صفحات فقط، حيثياته سبعة اسطر الغى احكام قضائية صدرت بعد اربعين سنة نزاع!
الغى جهود اربعين سنة ونزاع منذ عام ١٤٠٥هجرية بكل بساطة ويسر، جعل نزاع اربعين سنة وحكم ابتدائي واثنين احكام استئنافية واثنين احكام محكمة عليا جعلها في حكم العدم وبثلاث صفحات فقط لا اكثر ولا اقل!!.
وملخص النزاع ان شخصين يتنازعان على قطعة ارض فصدر بينهما حكم تحكيم وتم الغاء حكم التحكيم من الاستئناف، فقام احدهما برفع دعوى ضد الاخر امام المحكمة الابتدائية فصدر حكم لمصلحة احدهما، استأنف الاخر الحكم فتم تأييد الحكم فطعن المحكوم عليه الى المحكمة العليا فاعادته المحكمة العليا لاجراء المعاينة وتم اجراء المعاينة وصدر حكم استئناف جديد فتم الطعن به للمرة الثانية فايدت المحكمة العليا الاستئناف في حكمها فتقدم المحكوم عليه بطعن بالتماس باعادة النظر فكان منطوق الحكم هو المنطوق المبين انفا.
الغى كل الاحكام وارجع الناس الى نقطة الصفر،
الحكم نفسه قرر عدم جواز الطعن، وبنفس الوقت ينقض الاحكام ويلغيها ويجعلها كأن لم تكن، مستندا الى قول احد الشهود ان الدولة تدخلت وحجرت الطرفين فظن ان الدولة تدعي الملك ولم يفهم ان الشاهد يقصد ان الدولة تدخلت ومنعت الطرفين من المساس بالارض حتى يتم حسم النزاع بينهما كي لا تقع فتنة بين الطرفين.
والغريب ان الحكم يقرر عدم جواز نظر الطعن، وبنفس الوقت يلغي الاحكام !!!
اذا كنت قررت عدم جواز الطعن فلماذا تلغي الأحكام كلها من اولها لاخرها؟
هناك كوارث تجعلنا مجبرين احيانا ان نخرج من الصمت ونتكلم وننتقد
وهنا اعيد مقالا سبق لي نشره من سابق وهذا هو المقال السابق
((هناك احكاما قضائية مضى على صدورها اكثر من ثلاثين او اربعين سنة
لكن مهما مرت السنوات عليه يبقى قابلا للتنفيذ في اي وقت بسبب وضوحه ودقته وتحديد الحقوق والالتزامات المتقابلة بين اطرافه على وجه دقيق.
مثل هذا الحكم هو ما يقال عنه عنوان الحقيقة
اما الحكم القضائي الذي يشوبه الغموض والجهالة ولا يفهم المطلع عليه ما قضى به هذا الحكم على وجه دقيق فهذا الحكم عمره سنة او سنتين او عشر سنوات على الاكثر ثم يموت، لكن تبعاته تظل على عاتق من اصدره، حتى ولو تم تأييده من جميع الدرجات القضائية، واصبح باتا..مادام غامضا وتشوبه الجهالة فمصير اطرافه او ورثتهم ان يرموا به جانبا ويعودون للنزاع من جديد.
ومثل هذا الحكم لا يصلح ان يقال عنه انه عنوان للحقيقة
قبل بضعة سنوات اطلعت على حكم قضائي (جزائي) صادر من احدى محاكم الاستئناف، قضى منطوقه بالاتي
((تأييد الحكم الابتدائي فيما قضى به بشأن ازالة الجدار وفي الجانب المدني من له دعوى فعليه التقدم بها امام القضاء المدني)).
عدت للحكم الابتدائي وجدت الحكم الابتدائي قضى بالاتي
((ادانة الاربعة المتهمين ومعاقبتهم بالحبس لمدة ستة اشهر والزامهم بتعويض المجني عليه مبلغ مليون ريال والزامهم بازالة البناء الذي اقاموه الغرف والسور مع تحميلهم اغرام التقاضي)).
فطعن احد المحكوم عليهم الاربعة بالحكم الابتدائي امام الاستئناف وصدر الحكم الاستئنافي المشار الى منطوقه حرفيا اعلاه دون زيادة او نقصان، فبقيت محتارا،
هل هذا الحكم ايد الحكم الابتدائي ام الغاه؟، ما هو مصير عقوبة الحبس؟
ماهو مصير التعويض؟ ماهو مصير الادانة؟ من المقصود بقوله (من له دعوى فعليه التقدم بها امام القضاء المدني)؟
هل المقصود المتهم؟
ام المجني عليه؟ اصبح المتهم يقول الحكم الاستئنافي لمصلحتي ان النزاع مدني، والمجني عليه يقول الحكم الاستئنافي لمصلحتي لانه قضى بازالة البناء، المجني عليه يريد تنفيذ الحكم بالتعويض. والمتهمين يدفعون بان الحكم الابتدائي تم الغائه من الاستئناف. وقاضي التنفيذ في حيرة من امره خصوصا انه لم يطعن اي من الطرفين بالحكم الاستئنافي حتى انتهت المدة لان كل طرف يعتبر الحكم صادر لمصلحته!
انه حكم عجيب غريب مريب يضع الف علامة استفهام!!!
والكارثة انه تم تقديم طلب تفسير للحكم بعد عدة سنوات فردت المحكمة الطلب وقالت ان الحكم واضح!
وهو اصلا ليس واضح ولكن محكمة الاستئناف عجزت عن تفسيره!
ولأجل هذا كتبت هذا المقال
دوما يقال ان
(الحكم عنوان الحقيقة)
فاذا لم يكن الحكم عنوانا للحقيقة فانه من الخطأ ان يصدر ابتداء
معلوم انه لا يعاب القاضي ولا يلام بسبب قناعته طالما كانت لها اسبابها، لا احد يستطيع ان ينتقد القاضي او يلومه بسبب قناعته،
لكن القاضي يلام ويعاب اذا كان الحكم الصادر منه غامض
او لا يحسم النزاع بصورة كاملة
او يورد حكمه معلقا على شرط وغير جازم
فهذا يلام عليه القاضي لان حكمه اصبح سببا في تعقيد النزاع بدلا عن حسمه
الحكم يجب ان يكون (عنوان الحقيقة )
وعلى القاضي- عند كتابة الحكم- ان يضع هذه القاعدة نصب عينيه
هذا الحكم لن يقرأه اطراف الخصومة وحدهم
سيقرأه أبنائهم واحفادهم جيلا بعد جيل، وسوف يستندون اليه في منازعاتهم المستقبلية
سيقرأه محامون وقضاة واكاديميون وشراح ومثقفون ومواطنون
وقد يحدث ان ينشر في مواقع التواصل او بالصحف او او …
لذلك يتعين على القاضي عند كتابة حكمه ان يجعله فعلا عنوانا للحقيقة
والأوجب من ذلك حين يكون الحكم صادرا عن عدة قضاة وضعوا امضاءاتهم عليه يشاهدها الناس جيلا بعد جيل
وانا هنا اتحدث بصفة عامة وحاشا لله ان نقصد من حديثنا احد من سادتنا القضاة
فيظل السادة القضاة في كل محاكم الاستئناف وفي المحكمة العليا هم سادتنا وقدوتنا ومثالنا الاعلى الذين نسير على نهجهم
لكن الانسان ليس معصوم من الخطأ ومن التقصير
خصوصا مع ازدحام القضايا التي تثقل كاهل القضاء، لكن الناس لا يشعرون بما يشعر به القاضي
ان الحكم يجب ان يكون عنوانا للحقيقة
ومعنى ان الحكم عنوان الحقيقة اي ان الحكم يفترض به الوضوح والحسم والجزم والكفاية،
فالوضوح هو ان يكون الحكم لا يشوبه غموض، فاذا كان الخصوم قد دخلوا في خصومة امام القضاء ليتم حسم المنازعة بحكم قضائي
فانه يجب ان يكون هذا الحكم حاسم للنزاع او للخصومة بشكل واضح،
و لا يجوز ان يكون الحكم هو بذاته سببا للنزاع والخصومة،
فالحكم الغامض كانه لم يحسم الخصومة، بل زادها تعقيدا
ان وضوح الحكم يعني وجوب ان يكون الحكم بينا واضحا في تحديد مقدار الحق (المحكوم به) ومن هو صاحب الحق (المحكوم له) ومن هو الذي يجب ان يؤدي الحق (المحكوم عليه).
يكون منطوق الحكم فاصلا وقاطعا للخصومة ولا يحتاج الى حكم اخر يفسره.
كما ان كفاية الحكم تعني ان يكون منطوق الحكم بذاته كاف لبيان هذه الامور من اول نظرة يلقيها المطلع عليه، من خلال قراءة منطوق الحكم تعرف من هو المحكوم له ومن هو المحكوم عليه وما هو الحق المحكوم به وكم مقداره، وما الرجوع الى الوقائع والحيثيات الا لمعرفة المعطيات التي صدر بناء عليها هذا المنطوق اما الحسم فيعني ان الحكم انهى كل المسائل المتنازع عليها والمختلف فيها التي طرحت امامه.
فاذا رفعت دعوى قسمة امام القضاء وبعض الورثة ادعى الشراء واخر ادعى الوصية واخر ادعى الهبة وقدمت المستندات وطعن بعضهم بمستندات بعض فلا يجوز ان يقتصر الحكم فقط على اجراء القسمة دون ان يفصل في هذه المنازعات المتقابلة، فيجب ان يقول الحكم ان شراء فلان صحيح او باطل، والوصية التي قدمها فلان صحيحة او باطلة، والدين الذي ادعاه فلان صحيح او غير صحيح وكيف يتم خصمه وكم مقداره، وما هو الذي يتم قسمته وما الذي لا تتم قسمته، لان الاحكام القضائية لا يجوز ان تعطي الناس انصاف حلول، لو يريد الناس انصاف حلولا ما لجأوا للقضاء ولا خسروا وقتهم وجهدهم واموالهم في نزاع ينتهي بحكم اما غامض لا يقبل التنفيذ او يحسم جزء من النزاع دون الجزء الاخر ،
اما جزم الحكم فنعني به ان يكون الحكم غير معلق على شرط ولا مؤقت بتوقيت (باستثناء ما يتعلق بالاحكام المستعجلة)، تخيلوا قبل اسبوع اطلعت على حكم صدر عام ٢٠٠٦م قضى بصحة بصائر شراء المدعى عليه بشرط ان عليه ان يحلف اليمين فاذا حلفها تملك ما تضمنته بصائره وان لم يحلفها يقسم بينه وبين اخوته، اخت المدعى عليه طعنت بالحكم وتم تأييده بالاستئناف والعليا، توفي اخوها المدعى عليه قبل ان يحلف اليمين، والان هم حانبين في التنفيذ ما جعل الورثة يقومون برفع دعوى جديدة ! هذا الحكم مات، لانه ليس جازما ولا يمكن ان يعمر اكثر من بضع سنوات!، وهنا اقول ان للخصوم والمحامين دور مهم في التأثير على الحكم ومدى وضوحه وكفايته والحسم الذي ينتجه في موضوع الخصومة، فالدعوى المجهولة يبنى عليها حكم مجهول، والتخيير بالحق المطالب به يبنى عليه حكم يتضمن تخييرا كذلك، ولذلك الخصوم والمحامين لهم دور كبير في التاثير على دقة الحكم ووضوحه.
اخيرا اقول انه يجب انشاء مركز ابحاث يكون تابعا للمكتب الفني في المحكمة العليا او لهيئة التفتيش القضائي يقوم بدراسة نماذج عشوائية من الاحكام القضائية،او دراسة النماذج التي يقدمها اطراف النزاع للوقوف على مكامن الخلل التي تشوب مثل هذه الاحكام وتمر في كافة مراحل التقاضي مرور الكرام دون التنبه الى ما تتضمنه من غموض واوجه قصور يؤدي الى تعقيد النزاع بين الناس واعادتهم للنزاع امام القضاء من جديد.
دمتم برعاية الله…