ظهرت تطبيقات للتواصل مع المتوفين افتراضياً مما يؤثر نفسياً في ذويهم

بلغ التطور في مجال الذكاء الاصطناعي حداً أصبح فيه المتخصصون قادرين على تسخير تقنياته في جوانب حياتية عدة، وصولاً إلى “إعادة الموتى للحياة” بشكل افتراضي، فمن كان يتصور قبل سنوات أنه قد يأتي اليوم الذي يمكن للإنسان فيه أن يتابع الحديث مع أحد أحبائه الذي فقده باللجوء إلى تطبيقات تعتمد على الذكاء الاصطناعي؟

فبفضل تلك التطبيقات لا يفسح المجال للعودة لتسجيلات صوتية تحافظ على ذكرى من رحلوا فحسب، بل يمكن الحفاظ على هذه الذكريات وإبقائها حية عبر إقامة أحاديث معهم من خلال اتصالات افتراضية تستند إلى ملفاتهم الشخصية وصورهم، ولقطات فيديو على وسائل التواصل الاجتماعي.

وبالنسبة إلى من فقدوا شخصاً عزيزاً، تبدو هذه وسيلة قيمة للحفاظ على الذكريات وعلى اللحظات الجميلة معه حتى لا تزول مع رحيله، لكن في المقابل تثير هذه المسألة قضية أخلاقية، إضافة إلى ما لها من تداعيات نفسية وآثار في ذوي المتوفي.

تطبيقات ومقابلات افتراضية وأرباح

تعددت التطبيقات التي تستند إلى الذكاء الاصطناعي للتواصل مع الموتى بالاعتماد على مقاطع فيديو تفاعلية يظهر فيها المتوفى وهو يتواصل بطريقة حية مع ذويه ويرد على أسئلتهم. “هو يتفاعل، ويتنفس، ويرمش، كما لو كان حياً فعلاً”، وفق ما ذكر في تقرير نشر في صحيفة “نيويورك تايمز”.

أما أجوبة المتوفي، فلا تكون من محض الخيال، بل هي أجوبة كان من الممكن أن يعطيها في حياته، بالاستناد إلى ردود وبيانات وآراء له قبل وفاته. حتى إنه ثمة شركات تقدم مثل هذه الخدمات معتمدة على هذه التطبيقات في مقابلات افتراضية مع المتوفين يجيبون فيها عن أسئلة معينة، كما حصل في جنازات أشخاص في الولايات المتحدة والصين وغيرها من الدول، على رغم المعضلة الأخلاقية المطروحة في هذا المجال، وعلى رغم حساسية الناس عامة تجاه مسألة الموت.

وفق ما يوضحه المتخصص في التحول الرقمي فريد خليل، هناك بالفعل تطبيقات مماثلة تستند إلى تقنيات الذكاء الاصطناعي، وتعمل وفق مبدأ التزييف العميق أو “الاستنساخ الافتراضي” المشابه لما يحصل حالياً في عالم الموسيقى وغيره من المجالات. إنما في هذه الحالة يطبق مبدأ “الاستنساخ” أو التزييف العميق على أحد المتوفين ويحصل ذلك بالصوت والصورة، هذا ما يولد وهماً لدى ذوي المتوفي الذين يتمسكون بمثل هذه الوسائل للحفاظ على ذكريات معينة للمتوفى، ولو بشكل وهمي أو افتراضي، من خلال التواصل معه بالصوت والصورة.

“يكفي أن يقدم ذوو المتوفين صوراً وفيديوهات وأصواتاً خاصة بهم، مما يسمح للتطبيقات باستنساخ الشكل عبر تقنية التزييف العميق. حتى إن ذلك يسمح بالتواصل مع المتوفين ضمن أحداث آنية بفضل الذكاء الاصطناعي. فالذكاء الاصطناعي متصل بالإنترنت ويمكن طرح أسئلة على المتوفي في موضوع آني ليبدو وكأنه يشارك فيه ويتفاعل معه، فيما يقدم الذكاء الاصطناعي في الواقع الأجوبة والآراء”، وفقاً لخليل.

وقد تعتمد مثل هذه التطبيقات أيضاً مع كتاب ومفكرين متوفين بالاستناد إلى تدريب يرتكز على نمط التفكير الخاص بهم وكتاباتهم وآرائهم، فتأتي الأجوبة انطلاقاً من أفكاره هذه.

خلل في مراحل الحداد

تبدو تجربة مماثلة للوهلة الأولى فرصة مميزة لمن فقدوا شخصاً عزيزاً، لكن لا يمكن ألا يطرح فيها البعدين الأخلاقي والنفسي، خصوصاً أن للموت حرمته وهو جانب حساس لا يمكن التهاون فيه.

بالنسبة إلى ذوي المتوفى، هم قادرون بهذه الطريقة على الاستمرار بالتفاعل معه وإحياء ذكراه، لكن بالدرجة الأولى يعلم الكل أن تقنيات الذكاء الاصطناعي ليست معصومة عن الخطأ، فعلى رغم التطور الحاصل في هذا المجال، لا يمكن أن تحل هذه التقنيات محل الإنسان.

لذلك يحذر خليل من مجال الخطأ هذا، أثناء التواصل افتراضياً مع المتوفى، فقد يتحدث المتوفى عندها بأسلوب لا يشبهه أبداً، أو أنه يبدو صادماً، خصوصاً عندما يعطي رأيه في قضايا مستفزة، مع ما لذلك من انعكاسات نفسية في ذويه، ويعتبر هذا خطراً بشكل خاص عندما يكون المعني هنا من الكتاب أو المفكرين، بالتالي هو وضع غير سليم من الناحيتين النفيسة والأخلاقية، وإن كان بعضهم ينظر إلى إيجابياته لما تفسحه من مجال في التواصل مع شخصيات بارزة في التاريخ، ومن كانت لهم إنجازات، إذ يمكن عندها مناقشتهم في أية قضية آنية.

في الواقع، لا بد من التذكير بأن الأجوبة التي يقدمها هؤلاء في المقابلة الافتراضية مبينة على الذكاء الاصطناعي، وليست واقعية بالفعل. لذلك تبرز أهمية التحذير من الغوص في هذا العالم بأسلوب عشوائي لأنه يخلق وهماً لدى الناس، ويبعدهم عن الواقع، ويدفعهم إلى رفضه وعدم التأقلم معه.

من الناحية النفسية، تولد هذه التطبيقات ارتباكاً في مراحل الحداد المعروفة التي فقدان شخص عزيز، فهذه المراحل الخمس تبدأ بالإنكار، يليه مرحلة الغضب والرفض لما حصل، ثم الاكتئاب والحزن الشديد على الفراق، وبعدها صيغة التسوية لتقبل ما حصل، وصولاً إلى مرحلة القبول للوفاة.

بشكل عام قد تستمر هذه المراحل خلال نحو ستة أشهر أو أكثر في حال فقدان أحد المقربين، لكن هذه المدة قد تزيد أو تنقص بحسب طريقة الوفاة ووقع الصدمة والعلاقة مع المتوفي. مع تخطي هذه الصدمة، يكون الإنسان تخطى مرحلة الحداد وتقبل الواقع، لكن لا تنكر الاختصاصية في المعالجة النفسية جيزال نادر أنه ثمة أشخاص يعجزون عن تخطيها ويبقون عالقين في إحدى مراحلها، وربما يتوقفون عند مرحلة الإنكار مثلاً في حال عدم تقبل فكرة الرحيل، وتوقع عودة المتوفي، ورفض هذا الواقع.

ومن الممكن أن يبقى بعضهم عالقاً في مرحلة الغضب أو الاكتئاب، فيستمر بالتعبير عن استيائه من هذا الواقع خلال فترات طويلة عندما لا ينهي العقل مسار عملية الحداد والعلاج الذاتي لتخطي الصدمة، وهذا ما يسبب اضطراب ما بعد الصدمة، ويلاحظ عندها بعضهم العجز عن الدخول إلى غرفة المتوفي، ورؤية ملابسه أو المكان الذي كان يوجد فيه.

وأضافت “صادفت حالات تستخدم هذه التطبيقات التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي، وكان الشخص عالقاً في مرحلة الإنكار لأنه يحاول أن يحيي المتوفي ولم يتقبل وفاته، فلو أنه تقبل رحيله وأنهى هذه المراحل لما عاد للمراحل الأولى للحداد”.

انطلاقاً من ذلك فإن الاعتماد على مثل هذه التطبيقات يدل على عدم تخطي مختلف مراحل الحداد، كما من المفترض أن يحصل، ويمكن إحياء الذكرى من خلال الصور مثلاً أو من خلال أغراض الشخص، لكن اللجوء إلى تطبيقات تولد وهماً خطوة غير سليمة ولا تساعد في تخطي الصدمة، لأنها تبقي ذوي المتوفي تحت وقع الصدمة وعالقين في إحدى مراحل الحداد، وإن بدا للبعض أنها تؤمن الراحة لفترة معينة.

الوعي في استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي

تعتبر المصالحة مع فكرة الوفاة أمراً صحياً ومرحلة لا بد من بلوغها، وإلا فقد تساعد المعالجة النفسية في متابعة الحياة في حالات معينة عندما تزيد الصعوبات لدى فقدان شخص عزيز. لا بد من المرور بمختلف مراحل الحداد بشكل سليم لتخطيها.

هذا ما تؤكده الاختصاصية في المعالجة النفسية شارلوت خليل، مشيرة إلى أهمية تخطي المراحل كافة، إلا أن وجود مثل هذه التطبيقات قد يطيل هذه الفترة، ويزيد صعوبة بلوغ مرحلة تقبل الوفاة وفكرة الموت، وهو ما يثير القلق في شأن التطبيقات التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي التي تدعي “إحياء الأموات” فتمنع ذوي المتوفي من متابعة الحياة وتخطي ما حصل، إذ يعيشون معها في وهم، مع ما لذلك من أخطار لا يمكن الاستهانة بها في مسار الحداد بمختلف مراحله.

وأضاف “بشكل عام تسبب هذه الأدوات نوعاً من الارتباك لدى ذوي المتوفي، وتمنعهم من قبول هذه المسيرة الطبيعية للحياة وصولاً إلى الموت”.

ومضت في حديثها “قد يؤدي التفاعل مع نسخة افتراضية إلى خلل في العلاقات الإنسانية في ظل هذا الوهم، ومعها ربما يحصل خلل على مستوى عجلة الحياة الطبيعية وفكرة أن الموت سنة الحياة، فهذا ما يلعب دوراً في العلاقات الإنسانية ولا يمكن إلغاء فكرة الفقدان من حياتنا لأنها مسألة تحدد ردود فعلنا وعلاقاتنا مع الآخرين ومسار حياتنا”.

ظهرت أصوات معارضة لهذه التطبيقات لاعتبارها تستغل حال الضعف ومشاعر الحزن التي يغرق فيها ذوو المتوفي، فيما لا تقدم اتصالاً حقيقياً بل وهماً. في المقابل لفت مدافعون عنها إلى أن حسن استخدامها بإشراف اختصاصيين قد يساعد في تخطي مرحلة الحداد ويخفف من أثر الصدمة خصوصاً في حالات الموت المفاجئ.

وتزيح التجربة الستار عن أنه تماماً كما بالنسبة إلى مختلف تقنيات الذكاء الاصطناعي، يمكن استخدام هذه الأدوات والاستفادة من ميزاتها ومن التطور فيها، لكن تبرز أهمية الوعي والتعامل معها بحرص وإدراك كونها لا تعكس الواقع.

ومما لا شك فيه أن نتائج استخدامها قد يختلف على هذا الأساس بين الأفراد بحسب مناعتهم النفسية وأوضاعهم، فقد يشكل استخدامها خطراً ما لم تكن هناك متابعة صحيحة ووعي للاستفادة من ميزاتها، إذا ما كانت فعلاً تخفف من وجع الفراق، وحتى لا يزيد الوجع بسببها وتطول المعاناة.

المصدر :إندبندنت

اترك هنا تعليقك وشاركنا رأيك