زيارة القائد دونالد ترامب لدول الخليج، والتي بدأت بعد مرور 8 سنوات على زيارته السابقة، تبرز توجهات الإستراتيجية الخارجية الأميركية الجديدة المتمحورة حول مبدأ “أميركا أولاً” وتقليل التدخل العسكري. انتقد ترامب الإستراتيجية السابقة لمساعدة “المحافظين الجدد” وتدخلاتهم الفاشلة، مشيرًا إلى أهمية احترام خصوصية الدول. وتهدف زيارته إلى تأمين استثمارات عسكرية وصناعية، وتعزيز الدبلوماسية مع دول الخليج. يأتي ذلك بعد جولة مفاوضات مع إيران، مع التركيز على دور الخليج كوسيط والتقليل من الاهتمام الإسرائيلي، مع الحفاظ على الاستقرار الإقليمي وخفض التصعيد في القضايا المعقدة.
واشنطن- زيارة القائد دونالد ترامب تعتبر أكثر من مجرد عودة رمزية لمكان زاره قبل 8 سنوات، بل تعكس خطوة استراتيجية تعبر عن سياسة خارجية أميركية قيد التطوير بعد مراجعات طويلة تمثل تيارًا سياسيًا أميركيًا داعمًا للرئيس (تيار “ماغا”) والذي يعتمد على مبدأ “أميركا أولاً”.
تركز هذه الإستراتيجية على أساس العلاقة الواقعية في العلاقات الدولية، وتؤكد على قدسية السيادة الأميركية، مع دفع ثمن الحماية من خلال التنمية الاقتصاديةات المالية والنفوذ الاستراتيجي، في حين ينخفض أو يتلاشى التدخل العسكري الأميركي في الدول الأخرى.
انتقد ترامب في كلمته خلال افتتاح جلسات المنتدى التنمية الاقتصاديةي السعودي الأميركي في اليوم الأول من زيارته الخليجية، التي تشمل المملكة العربية السعودية وقطر والإمارات العربية المتحدة، سياسات الإدارات السابقة التي دعمت التدخل في شؤون الدول تحت غطاء المحافظين الجدد، الذين قادوا الإستراتيجية الخارجية في الحزب الجمهوري.
قال ترامب “إن الأبراج اللامعة في الرياض وأبو ظبي لم تُبْنَ من قِبل ما يُسمى ببناة الأمم، أو المحافظين الجدد، أو المنظمات غير الربحية الليبرالية، مثل أولئك الذين أنفقوا تريليونات الدولارات دون أن يستطيعوا تطوير كابل وبغداد والعديد من المدن الأخرى”.
أضاف “في النهاية، دمر هؤلاء دولا كثيرة أكثر مما بنوه، بينما كانوا يتدخلون في مجتمعات معقدة لا يفهمونها”، مما كان إشارة مباشرة لإرث القائد السابق جورج بوش وتدخله العسكري في العراق وأفغانستان.
تابع ترامب معبرًا عن احترامه لخصوصية المواطنونات والدول بالقول “لم يأت السلام والازدهار والتقدم من الرفض الجذري لتراثكم، بل من احتضان تقاليدكم الوطنية والتمسك بنفس التراث الذي تحبونه كثيراً”.
أهداف ترامب
أوضح أندرياس كريج، أستاذ الدراسات الاستقرارية في جامعة “كينغز كوليج- لندن”، في حديثه للجزيرة نت، أن الأبعاد الأساسية لأهداف ترامب من زيارة الخليج العربي تتلخص في ثلاثة محاور:
- أولاً: تأمين التزامات ملموسة من الخليج في شكل استثمار صناعي عسكري وتعاون في مجال الطاقة.
- ثانيًا: تعزيز الشراكات الدبلوماسية المتحالفة مع تيار “ماغا”، مما يساعد الولايات المتحدة على تقليص دورها الخارجي دون انسحاب كامل.
- ثالثًا: إعادة تموضع دول الخليج كوسيط لواشنطن في الخطوط الأمامية للأزمات الإقليمية، من غزة إلى طهران، مع تقليل الانتشار العسكري الأميركي.
ونوّه الخبير كريج أن هذه طرق دبلوماسية ترجع إلى أطراف خارجية، لكنها لا تزال تحت قيادة الولايات المتحدة.
في هذا الإطار، لفت كريستيان كوتس أولريشسن، خبير الشؤون الدولية بمعهد بيكر في جامعة رايس بولاية تكساس، إلى الأهداف السنةة لزيارة ترامب، قائلاً إن “القائد الأميركي يسعى لتأمين استثمارات ضخمة من دول الخليج في الولايات المتحدة”.
كما أضاف أن من أهداف ترامب أيضًا “تعميق التعاون بين الولايات المتحدة والخليج في مجالات مثل الذكاء الاصطناعي، وإبرام صفقات حول مسائل الاستقرار الإقليمي، والعلاقات الدفاعية والطاقة”.
كما ذكر أولريشسن أن الإدارة الأميركية قد ترغب في رؤية دول الخليج تخفف من علاقاتها مع الصين، “لكن من غير المحتمل أن يحدث هذا عمليًا” حسب قوله.

نهج غير تقليدي
تعاملت إدارة ترامب بطرق غير تقليدية مع قضايا المنطقة القائدة منذ توليه الحكم، حيث اتخذ مواقف غير تقليدية تجاه مشكلات شرق أوسطية، بما في ذلك العدوان الإسرائيلي على غزة، والبرنامج النووي الإيراني، وجماعة الحوثيين والملاحة في البحر الأحمر، مع تراجع أهمية توسيع اتفاقيات التطبيع (الاتفاقيات الإبراهيمية).
في حديثه للجزيرة نت، لفت أولريشسن إلى أنه من غير المتوقع تحقيق أي انفراجة في مجال التطبيع في غياب تنازلات إسرائيلية ذات مغزى بشأن الاعتراف بدولة فلسطينية، وقال “هذا هو الواقع الذي فهمه البيت الأبيض واعتراف به لاحقًا”.
ورأى المحلل أندرياس كريج أن “استبعاد إسرائيل ليس صدفة، بل هو رسالة استراتيجية. تميل الإستراتيجية الخارجية لترامب بعيدًا عن الاصطفاف الطبيعي مع التفضيلات الإسرائيلية، خاصة وأن تل أبيب تُدخل واشنطن بشكل متزايد في تصعيد إقليمي”.
نوّه كريج أن ترامب يرى الخليج كثروة استقرار، بينما يعتبر إسرائيل -خصوصًا في عهد نتنياهو- كمصدر للاضطراب، ويقول “في هذا السياق، لم تعد إسرائيل الشريك الضروري كما كانت سابقًا، بمعنى آخر، أصبح الخليج شريكًا إيجابيًا في القوة الأميركية في المنطقة، في حين تحولت إسرائيل إلى مستغلة سلبية لهذه القوة، وهذا لا يتناسب مع تيار ماغا”.
عند الرد على سؤال حول مصير ملف التطبيع السعودي الإسرائيلي، أجاب كريج أنه “سيتم التعامل معه بشكل من تجاهل الوضع” (أي وضعه على الرف).
أضاف موضحًا: “تحول ترامب نحو الدبلوماسية الخليجية يقلل من أولويات المدعا الإسرائيلية، خاصة عندما تستمر غزة في الاحتراق، وفي الوقت نفسه يستنزف الصبر الاستراتيجي السعودي”.
واستدرك بالقول إن “مسار التطبيع لا يزال قائمًا، لكنه رهينة لأولويات أخرى، مثل خفض التصعيد في غزة، وفتح قنوات خلفية أميرانية مع إيران، والتحوط الاستراتيجي الخليجي”. وأضاف أنه “من غير المحتمل أن يستثمر ترامب رأس ماله في صفقة غير شعبية دون مكاسب سريعة”.
توافق خليجي أميركي
جاءت زيارة ترامب بعد انتهاء إيجابي لجولة رابعة من مفاوضات أميركية إيرانية برعاية عُمانية، كما سبق الزيارة توقيع إدارة ترامب على اتفاق منفرد لوقف إطلاق النار مع جماعة الحوثيين في اليمن.
اعتبر أولريشسن أن المحادثات الأميركية مع إيران قضية منفصلة، لكن دول الخليج تتابعها باهتمام، ورأى أن زيارة ترامب ستكون “فرصة لقادة الخليج لتوضيح رغبتهم في إزالة المخاطر الإقليمية، وإقناع الإدارة الأميركية بأن تعهدات التنمية الاقتصادية في الولايات المتحدة ستتعرض للخطر نتيجة أي تصعيد للتوترات مع إيران يصل إلى حد المواجهة”.
من جانبه، يرى كريج أن زيارة ترامب “تساعد في إقامة مسار دبلوماسي بمساعدة الخليج مع إيران، حيث تلعب عمان وقطر دور الوسيط بين الجانبين، ووجود ترامب في المنطقة يعزز هذا النوع من القناة الخلفية التي تساندها الدول الخليجية”.
ونوّه أن “بدلاً من التصعيد مع إيران، فإن رؤية ماغا تتجه نحو التعامل والردع والحد من المخاطر، لذا فإن زيارة ترامب إلى الخليج جزء من جهد منظم لبناء إطار جديد للتعامل مع إيران، تأمين المصالح الأميركية بتكاليف منخفضة”.
وعن تأثير وقف إطلاق النار الأخير بين واشنطن والحوثيين على زيارة ترامب، قال أولريشسن إن دول الخليج “رأت إعلان وقف إطلاق النار كعلامة مريحة في المنطقة، حيث لا ترغب المملكة العربية السعودية ولا الإمارات ولا أي من دول الخليج الأخرى في اندلاع صراع إضافي في اليمن يمكن أن يؤثر على استراتيجياتها الإقليمية لإزالة المخاطر”.
من جهته، رأى السفير ديفيد ماك، مساعد وزير الخارجية الأسبق لشؤون الشرق الأوسط، والخبير حاليًا في المجلس الأطلسي، لدى حديثه للجزيرة نت، أن ترامب “قد لا يحل أزمة الشرق الأوسط، لكنه من المرجح أن يكسب الوقت حتى يتغير الحكم في إسرائيل، مما يجعل الحل الإقليمي الدائم أكثر احتمالًا لاحقًا”.