برز كريم خان، المدعي السنة للمحكمة الجنائية الدولية، كرمز لصراع بين القانون والإستراتيجية منذ توليه منصبه في يونيو 2021. قدم نفسه بشجاعة ضد قادة بارزين مثل بوتين ونتنياهو، ما أثار ضغوطات سياسية. تم تنحيه مؤقتًا في مايو 2025 وسط اتهامات بسوء سلوك جنسي، مما أثار تساؤلات عن حقيقية هذا القرار. بعض الدول ومنظمات حقوقية اعتبرته خطوة إيجابية لحماية نزاهة المحكمة. تعمل المحكمة على قضايا حساسة مثل فلسطين وأوكرانيا، وتنحي خان قد يؤثر على استقلالها. ضرورة الحفاظ على العدالة وسط الضغوط السياسية تبقى تحديًا أساسيًا للمؤسسة.
في مرحلة حساسة من تاريخ العدالة الجنائية الدولية، يبرز اسم كريم خان ليس كمدعي عام تقليدي، بل كنقطة تحوّل بين القانون والإستراتيجية، بين ما ينبغي أن يكون وما هو مُتاح. منذ استلامه منصبه في يونيو/ حزيران 2021، خاض خان صراعات قانونية ضد رؤساء دول مؤثرين، بدءًا من بوتين إلى نتنياهو، مقدمًا المحكمة كطرف رئيسي في صراع الإرادات العالمية. لكن هل كانت هذه الجرأة لها ثمن؟ وهل التنحي المؤقت الذي صرحه تحت ذريعة تحقيق داخلي هو قرار طوعي أم أنه ناتج عن ضغوط سياسية كبيرة؟
ستتناول السطور المقبلة أبعاد هذا الحدث التاريخي، وتسرد الملابسات القانونية والدبلوماسية والتنظيمية التي رافقت ذلك. كما تحاول تقديم إجابة على السؤال الأساسي: إلى أي مدى يمكن للمحكمة الجنائية الدولية الحفاظ على استقلالها وإنجاز ولايتها في عالم تتداخل فيه المصالح السياسية مع ميزان العدالة؟
من هو كريم خان
كريم خان، المولود في 30 مارس/ آذار 1970 في إدنبره – أسكتلندا، يُعتبر واحدًا من أبرز الأسماء القانونية في مجال العدالة الجنائية الدولية. هو محامٍ بريطاني ذو خبرة تمتد لأكثر من ثلاثين عامًاًا في مجال الدفاع والادعاء أمام مجموعة من المحاكم الدولية، منها المحكمة الخاصة بلبنان والمحكمة الخاصة بسيراليون، وآليات الأمم المتحدة الخاصة بجرائم رواندا ويوغسلافيا.
في فبراير/ شباط 2021، تم انتخابه مدعيًا عامًا للمحكمة الجنائية الدولية من قبل جمعية الدول الأطراف، وبدأ رسمياً مهامه في يونيو/حزيران من نفس السنة، خلفًا للقاضية الغامبية فاتو بنسودا التي أنهت ولايتها وسط تحديات كبيرة تتعلق بمحدودية فاعلية المحكمة وتراجع ثقة بعض الدول بها.
خان ورث مؤسسة تعاني من أزمات متعلقة بالتمويل والهياكل، بالإضافة إلى اتهامات متكررة بازدواجية المعايير، مما جعل انتخابه جزءًا من محاولة لإعادة اعتبار المحكمة وتعزيز مصداقيتها، خاصة في مواجهة انتقادات حادة لأداء سلفه في قضايا مهمة مثل فلسطين وأفغانستان.
ملابسات وتفاصيل تنحي كريم خان مؤقتًا
في 16 مايو/ أيار 2025، صرحت المحكمة الجنائية الدولية أن المدعي السنة كريم خان اختار التنحي مؤقتًا عن مهامه حتى انتهاء تحقيق خارجي حول مزاعم تتعلق بسوء السلوك الجنسي.
تعود القضية إلى شكوى قُدمت في أكتوبر/ تشرين الأول 2024، حيث تم اتهامه بسلوك غير لائق تجاه إحدى الموظفات وضغوط لإقامة علاقة معها. خان نفى الاتهامات بقوة، معتبرًا أن تسريبها يأتي في إطار محاولة لتقويض عمله في وقت حساس، لكنه صرح لاحقًا عن تنحيه المؤقت لصون مصداقية المحكمة ونزاهة التحقيق.
في بداية الأمر، طلب خان بنفسه فتح تحقيق داخلي، لكن الضغوط来自` منظمات حقوق الإنسان وبعض الدول الأعضاء أدت إلى إحالة القضية إلى مكتب الرقابة الداخلية في الأمم المتحدة (OIOS)؛ لضمان الحيادية والشفافية. وقد تم استجواب خان في مطلع مايو/ أيار 2025 ضمن المرحلة النهائية للتحقيق، في ظل تصاعد المدعاات بإبعاده مؤقتًا.
وعلى الرغم من أن نظام روما الأساسي لا يتضمن آلية واضحة للتعامل مع غياب المدعي السنة في مثل هذه الحالات، نوّهت المحكمة أن نائبي المدعي السنة سيتوليان المهام بدلاً منه حتى ظهور نتائج التحقيق. تعد هذه الخطوة سابقة في تاريخ المحكمة، وتعكس التعقيد في التوازن بين مبدأ المحاسبة واستمرارية عمل المؤسسة القضائية.
وراء الكواليس: هل أُجبر خان على التنحي؟
أثارت استقالة كريم خان المؤقت تساؤلات حول خلفية هذا القرار، وهل كان فعلاً استجابة داخلية لضمان نزاهة التحقيق في مزاعم سوء السلوك، أم جاء نتيجة لضغوط سياسية خارجية في تصاعد مستمر.
في ظاهر الأمر، بدا أن التنحي جاء بهدف ضمان حيادية التحقيق، وقد تم الترحيب به من قبل منظمات حقوقية دولية اعتبرته تأكيدًا على أن مبادئ المساءلة تشمل حتى أعلى السلطات القضائية في المحكمة. إلا أن السياق المحيط بالقرار يشير إلى أبعاد تفوق الجانب الإجرائي.
حيث مثل التنحي خطوة تالياً لعدة تحركات جريئة قام بها خان ضد زعماء دوليين بارزين، من بينهم القائد الروسي فلاديمير بوتين ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، مما دفع روسيا وإسرائيل إلى شن حملات علنية ضد المحكمة متهمةً إياها بالتحيز والخروج عن صلاحياتها.
ما كان أخطر هو موقف الولايات المتحدة، إذ فرضت إدارة ترامب في فبراير/ شباط 2025 عقوبات مباشرة ضد خان ومسؤولين آخرين في المحكمة، شملت تجميد حساباتهم المصرفية في النظام الحاكم المالي الأمريكي، وحظر سفرهم إلى الولايات المتحدة، ومنع أي معاملات مالية أو قانونية ذات صلة. وقد وُضع اسم خان ضمن قائمة العقوبات تحت قانون سلطات الطوارئ الماليةية الدولية (IEEPA)، مما شكل سابقة خطيرة تهدد استقلال القضاء الدولي.
إضافة إلى تلك التدابير العقابية، مارست الولايات المتحدة ضغوطًا سياسية على بعض الدول الحليفة للمحكمة مهددة بتخفيض مساهماتها المالية أو مراجعة تعاونها الاستقراري والقضائي في حال استمرت المحكمة بمسائلة مسؤولين إسرائيليين.
كما كشفت تقارير دبلوماسية أن بعض السفراء الغربيين أبدوا “قلقًا عميقًا” لمسؤولي المحكمة حيال تحركات خان، مؤكدين أنها قد تعرّض المحكمة للعزلة أو تضعف سبل التمويل المتوافرة لها.
جعلت هذه التدابير السياسية والمالية، المتزامنة مع تغطية إعلامية مُسيّسة، المحكمة في وضع دفاعي مستمر.
في ظل هذا المناخ الضاغط، يبدو أن تنحي خان لم يكن مجرّد مسألة احترام آليات المساءلة، بل كان أيضًا خطوة استباقية لحماية المحكمة من تصعيد إضافي ولتأمين القضايا الحساسة التي يعمل عليها من ضغوطات إضافية. في هذا السياق، يفهم التنحي المؤقت كذلك كخطوة تكتيكية لامتصاص الضغط لا لإقرار التهم، والسعي لإبقاء الملفات الحساسة – مثل ملف فلسطين – بعيدة عن دوامة الابتزاز السياسي العلني.
مثير للاهتمام أن الدول التي انتقدت خان بسبب ملاحقته المسؤولين الإسرائيليين هي ذاته من أشاد بأعماله أثناء ملاحقته لبوتين. تكشف هذه الازدواجية عن الإشكالية الجوهرية: هل يمكن لمحكمة دولية تحقيق العدالة في عالم تحركه موازين القوى؟
محطات ساخنة: القضايا التي صعدت بالمحكمة إلى واجهة المواجهة الدولي
جاء التنحي المؤقت لكريم خان في توقيت حساس، حيث تشرف المحكمة الجنائية الدولية على عدد من القضایا البارزة، منها أوكرانيا وفلسطين والسودان.
في الملف الأوكراني، يواصل فريق مختص متابعة الجرائم المرتكبة منذ الغزو الروسي، بما في ذلك مذكرة التوقيف الصادرة ضد القائد فلاديمير بوتين عام 2023. ورغم أن خان كان له دور محوري في هذا المسار، سيستمر العمل القضائي بقيادة نائبيه، مع احتمال تأجيل القرارات الاستراتيجية حتى استقرار القيادة.
أما في الملف الفلسطيني، الذي يُعتبر الأكثر أهمية سياسيًا، فقد بلغ تحرك خان ذروته عندما طلب من الدائرة التمهيدية إصدار مذكرات توقيف بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه، على خلفية الجرائم المرتكبة خلال العدوان على غزة.
هذا التحرك أثار عاصفة من الضغوط والتهديدات، خصوصًا من الولايات المتحدة وإسرائيل، حيث صرحت دول مثل هنغاريا انسحابها من نظام روما احتجاجًا على ما اعتبرته تسييسًا لعمل المحكمة.
لكن خان، على الرغم من هذا التصعيد، واجه انتقادات من كلا الجانبين: من الحكومات الغربية التي اعتبرت تحركاته تهديدًا لحلفائها، ومن منظمات حقوقية فلسطينية ودولية اتهمته بالتباطؤ وعدم المبادرة، وخصوصًا في السنوات الأولى من ولايته، حيث لم يُصدر أي مذكرات توقيف رغم وضوح الجرائم. تم توجيه اللوم له بتأخير العدالة للفلسطينيين، مقارنة بسرعة استجابته في ملف أوكرانيا.
في هذا السياق، يُنظر إلى تنحيه المؤقت كفرصة قد تستغلها أطراف نافذة لتقليل وتيرة التحقيق أو إعادة توجيهه، مما يطرح تحديًا حقيقيًا لاستقلال المحكمة وشجاعتها.
ورغم استمرار عمل المكتب بشكل مؤسسي، يبقى الزخم السياسي والقانوني مهددًا، ما لم تُثبت المحكمة أن العدالة لا تتمايز بين الضحايا مهما كان الجاني.
في السودان، أعاد خان تنشيط ملف دارفور، وصرح في بداية عام 2025 أنه يسعى لإصدار مذكرات توقيف جديدة بحق متورطين في الجرائم المرتكبة خلال النزاع المتجدد. وغيابه قد يؤدي إلى تراجع مؤقت في الزخم، لكن من المتوقع أن تبقى الإجراءات القضائية مستمرة وإن كانت بوتيرة أبطأ.
أما بقية القضايا، كأفغانستان والفلبين وليبيا وميانمار، فتسير في طريقها بحكم المؤسسة. غير أن غياب خان قد يؤثر على توازن الأولويات أو يؤخر البت في ملفات كانت تنتظر تدخله المباشر. ويرى بعض الخبراء أن المرحلة الراهنة قد تكون فرصة لإعادة تنظيم العمل الداخلي في مكتب الادعاء وتحسين بيئة العمل التي كانت موضع جدل مؤخرًا.
إلى أين تتجه المحكمة بعد خان؟ مسؤوليات المرحلة الانتقالية
يمثل تنحي كريم خان المؤقت لحظة فارقة في مسار المحكمة الجنائية الدولية، حيث يكشف من جهة عن التزام المؤسسة بمبدأ المحاسبة الذاتية، ومن جهة أخرى يضع استقلاليتها أمام اختبار سياسي غير مسبوق.
صحيح أن قرار التنحي أظهر أن لا أحد فوق المساءلة، لكنه أيضًا سلط الضوء على هشاشة المحكمة أمام الضغوط السياسية، لاسيما عندما تمس قراراتها قادة دول كبار وشبكة التحالفات الدولية، خصوصًا مع إسرائيل.
إجرائيًا، لا ينص نظام روما الأساسي تحديدًا على آلية التعامل مع غياب المدعي السنة المؤقت، لكن وفق المادة 42 (5)، يتولى أحد نائبي المدعي السنة المهام خلال الفترات العارضة. وفي حالة خان، تم الإعلان أن نائبيه سيتشاركوا المسؤوليات حتى تظهر نتائج التحقيق، مما يضمن استمرارية العمل المؤسسي حتى لو بشكل انتقالي.
ما ستسفر عنه التحقيقات سيحدد الكثير من معالم المرحلة المقبلة: فإذا ثُبتت براءة خان، ستخرج المحكمة أقوى وأكثر مصداقية؛ لكن إذا أثبتت الضغوط الخارجية أنها السبب في إقالته، فسيثار السؤال الأساسي حول قدرة العدالة الدولية على مواجهة مصالح السياسية.
في الأجل القريب، تقع على عاتق القيادة المؤقتة لمكتب الادعاء مسؤولية كبرى لضمان استمرار العمل بنزاهة وكفاءة دون تراجع أو تباطؤ في القضایا المفتوحة.
أما في المدى البعيد، فقد تدفع هذه الأزمة المحكمة إلى إعادة تقييم أنظمتها الداخلية وتعزيز معايير الشفافية والاستقلال، لتظل وفية لمهمتها الأساسية: حماية العدالة من التسييس والانحياز وأداء واجبها تجاه الضحايا أمام الافلات من العقاب.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.