رغم اهتمام عالمي متزايد بثروات غرينلاند المعدنية، خاصة بعد تصريحات ترامب، لم تُترجم هذه الاهتمامات إلى نشاط ملموس بعد. تواجه الجزيرة تحديات عدة منها صعوبة استخراج المعادن وارتفاع تكاليف الإنتاج. منطقة غرينلاند تمتاز بتاريخ جيولوجي غني، وتضم معادن مثل النحاس والنيكل، لكن استخراجها يتطلب عمليات معقدة وطويلة. كما أن البنية التحتية الضعيفة والمناخ القاسي تُعقد عملية التعدين. يعد الطلب على المعادن الأساسية مثل الليثيوم والنيكل متزايداً في ظل التحولات العالمية نحو الطاقة المتجددة، مما يزيد من أهمية تطوير هذا القطاع الهام في الجزيرة.
رغم تزايد الاهتمام العالمي مؤخرًا بمصادر الثروة المعدنية في جزيرة غرينلاند بعد تصريحات القائد الأمريكي دونالد ترامب ورغبته في شرائها، لكن لم يتم تحويل ذلك إلى أي نشاط عملي حتى الآن.
بينما تمتلك الجزيرة القطبية الشمالية احتياطيات معدنية غنية غير مستغلة، لا تزال التحديات في استخراج هذه الموارد وعزلها، بالإضافة إلى التكاليف العالية للإنتاج، تُشكّل عقبات رئيسية تمنع جذب التنمية الاقتصاديةات الكافية.
لفهم طبيعة المعادن النادرة والتحديات التي تواجه صناعة التعدين في أكبر جزيرة في العالم، أجرت الجزيرة نت لقاءً مع الجيوفيزيائي توماس فارمينغ، المستشار في هيئة المسح الجيولوجي للدانمارك وغرينلاند، ورئيس فريق الجيولوجيين في غرينلاند.
التاريخ الجيولوجي
تغطي المنطقة غير الجليدية في غرينلاند مساحة تقارب 0.4 مليون كيلومتر مربع، وتحتوي على تضاريس جيولوجية معقدة تمثل تقريبًا 4 مليارات سنة من التاريخ الجيولوجي، تتراوح من العصر الأركي إلى العمليات الحديثة.
ولفت توماس فارمينغ إلى أن التاريخ الجيولوجي الطويل للجزيرة أدى إلى مراحل تكوين متنوعة ووجود أنظمة جيولوجية متعددة، وهو أمر مرتبط ارتباطًا وثيقًا بعمليات استكشاف المعادن.
أضاف فارمينغ في حديثه للجزيرة نت أن غرينلاند تطورت عبر الزمن، وهي أطراف قديمة ومستقرة ضمن الغلاف الصخري للأرض تحت الصفائح التكتونية القارية.
أدّى التصادم القاري إلى نشوء نظام المضيق البحري في غرينلاند، حيث شهدت أيضًا ثورات بركانية قبل 60 مليون سنة في وسط غرب الجزيرة ومنطقة خليج ديسكو، قبل أن تنتقل لاحقًا إلى ساحلها الشرقي.
وعند النظر إلى العصر الطباشيري، أي قبل حوالي 120 مليون سنة، نوّه الجيوفيزيائي أن غرينلاند لم تكن في منطقة باردة، بل كانت في موقع أكثر جنوبًا حيث كانت تحوي أشجارًا ضخمة وغابات مطيرة وديناصورات.

العناصر الأرضية النادرة
تم تقييم 67 مادة فردية من المواد الخام وثلاث مجموعات تم تصنيف أكثر من 32 منها كمواد خام نادرة. ورغم أن النحاس والنيكل لا يندرجان ضمن هذا التصنيف، إلا أن المفوضية الأوروبية تصنفهما كمواد استراتيجية، مما يرفع إجمالي المواد الحيوية التي يصنفها الاتحاد الأوروبي إلى 34 مادة.
دعا رئيس فريق الجيولوجيين في غرينلاند إلى أن “العناصر الأرضية النادرة” توجد داخل المعادن، مشيرًا إلى أنها ليست نادرة فعلًا، حيث تتوفر في مناطق عديدة من العالم مثل الصين والسويد والنرويج.
وذكر أن المعادن الشائعة التي تحتوي على هذه العناصر تشمل اليوتروليت، والكرونيكليت، والأسبربونيت.
على عكس المتوقع، لفت توماس فارمينغ إلى أن اليورانيوم ليس له قيمة اقتصادية في غرينلاند، بسبب قانون يمنع التنقيب عن أي مادة يكون اليورانيوم منتجًا ثانويًا فيها، بحيث يكون الحد الأقصى 100 جزء في المليون، مما يجعله غير قابل للتطبيق في أعمال الإنتاج التجاري.
في نوفمبر/تشرين الثاني 2023، أبرم الاتحاد الأوروبي شراكة إستراتيجية مع غرينلاند تتعلق بسلاسل إمداد المواد الخام المستدامة، بهدف تطوير قطاع التعدين في الجزيرة عبر جذب التنمية الاقتصاديةات وتبادل المعرفة وتعزيز تنمية المهارات المحلية.
رغم أن هذه الشراكة تعكس اهتمامًا مشتركًا بتطوير مشاريع التعدين في الجزيرة، إلا أن العديد من العقبات لا تزال قائمة ويتعين تجاوزها قبل تحقيق الرؤية السياسية والماليةية لجعل غرينلاند مصدرًا رئيسيًا للمواد الخام في أوروبا.
صعوبات جادة
يعتبر المستشار في هيئة المسح الجيولوجي للدانمارك وغرينلاند أن استخراج المعادن النادرة من جوف الأرض هو الجزء السهل نسبيًا، إذ يتطلب فقط معرفة الكمية المتوفرة ودرجة الجودة وبعض الخصائص الأخرى، لكن المشكلة الحقيقية تكمن في المعالجة.
ويعزو توماس فارمينغ ذلك إلى أنه “بسبب تشابهها الكيميائي، يصعب جدًا استخراج هذه العناصر الأرضية النادرة وعزلها. ولإستخراج هذه العناصر إلى مكوناتها المعدنية، كلّ على حدة، يجب المرور بعملية طويلة ومعقدة للغاية وتستهلك الكثير من المواد الكيميائية”.
إلى جانب تداخل أنواع المعادن في غرينلاند، تكمن الصعوبة الأخرى في نقص البنية التحتية، حيث تقع مناطق التعدين بعيدًا عن القرى أو المدن، مما يستدعي التفكير في بناء ميناء ومساكن وتوفير إمدادات الطاقة والمياه ونظام الصرف الصحي، إضافة إلى إنشاء مطار يتناسب مع عدد السنةلين في المنجم؛ وكلها تتطلب استثمارات مالية ضخمة.
يجدر بالذكر أن الجليد يغطي 80% من مساحة الجزيرة القطبية الشمالية التي تتميز بمناخ قاسي وظروف بيئية صارمة تؤدي إلى ارتفاع تكاليف التشغيل. لذلك، لكي تُصبح هذه المعادن مصدر دخل كبير لغرينلاند، يجب أن يرتفع سعر المواد الخام، لأن استخراجها ليس فعّالاً من الناحية الماليةية في الوقت الراهن.

من جهة أخرى، يستبعد فارمينغ إمكانية بناء منجم خلال عامين فقط في غرينلاند، على عكس الدول ذات الطقس الجيد، حيث ستعوق قسوة الطقس في فصل الشتاء الشركات عن العمل طوال السنة، ولذلك قد يحتاج الأمر إلى 4 سنوات على الأقل.
أهمية إستراتيجية واقتصادية للمعادن النادرة
تشكل المعادن الأساسية مثل النحاس والليثيوم والنيكل والكوبالت والعناصر الأرضية النادرة مكونات رئيسية للعديد من تقنيات الطاقة الحديثة التي تتطور بسرعة، بدءًا من توربينات الرياح إلى الشبكات الكهربائية وصولًا إلى المركبات الكهربائية. ويتزايد الطلب على هذه المواد بشكل متسارع مع تسريع التحولات في قطاع الطاقة، حسب تقرير صادر عن وكالة الطاقة الدولية.
أوضح الجيوفيزيائي فارمينغ أن العناصر الأرضية النادرة تُستخدم بكثرة في التقنيات الحديثة، من الهواتف الذكية والمصابيح الثنائيّة الباعثة للضوء (LED) إلى السيارات الكهربائية، مؤكدًا أهميتها أيضًا في المجال العسكري، خاصة في بناء الغواصات والطائرات الحربية والصواريخ.
في السنوات القادمة، ستكون ضمانات إمدادات موثوقة من المعادن الأساسية أمرًا حيويًا لأمان أنظمة الطاقة. كما تكتسب هذه المعادن أهمية متزايدة في سياق “التحول الأخضر”، أي الانتقال من الاعتماد على الوقود الأحفوري نحو الطاقة المتجددة، وهو هدف تسعى إليه معظم دول العالم.
وفي هذا السياق، صرح رئيس فريق الجيولوجيين في غرينلاند أن “العديد من هذه الرواسب التي نملكها ضرورية للتحول الأخضر، حيث يُستخدم الليثيوم والغرافيت في صناعة البطاريات، بالإضافة إلى عناصر تدخل في تصنيع المغناطيسات الفائقة القوة، مثل توربينات الرياح والسيارات الكهربائية وكهربة القطارات”.
وأسهب قائلاً “الكثير من هذه الرواسب المعروفة منذ عقود لم تكن ضرورية في السابق لأن الناس لم يدركوا استعمالاتها، ولكن مع تكنولوجيا اليوم والسعي لعالم خالٍ من الوقود الأحفوري، أصبحت هذه المعادن ضرورية”.