إعلان


تتناول الهجرة اللبنانية إلى الخارج، مُسلطًا الضوء على دول أخرى بخلاف أميركا، مثل أفريقيا، وأستراليا، وأوروبا، والدول الخليجية، منذ منتصف القرن الـ19. كانت أفريقيا وجهة لبنانيين هربوا من ظروف اقتصادية وسياسية صعبة. معظمهم كانوا من المارونيين ثم توافد الشيعة من الجنوب خلال الحرب الأهلية (1975-1990). تصدّر اللبنانيون العديد من قطاعات التجارة، لكنهم يعانون من صور نمطية تتعلق بالفقر والثراء، إذ يعتبر 10% منهم أغنياء، بينما يشكل الآخرون جزءًا من الطبقة المتوسطة أو الفقراء. أدوارهم الماليةية تبدو مؤثرة لكن نشاطهم السياسي محدود.

عند الحديث عن هجرة اللبنانيين إلى الخارج، تتركز الأنظار عادةً على أميركا الشمالية (الولايات المتحدة وكندا) والعديد من دول أميركا اللاتينية، إذ حقق أحفاد الفينيقيين نجاحات اقتصادية وسياسية وأدبية في تلك المناطق البعيدة.

إعلان

لكن عند البحث في تفاصيل تاريخ هجرة اللبنانيين إلى بلدان أخرى، نكتشف وجهات أخرى كانت محطّ آلاف المهاجرين منهم منذ منتصف القرن الـ19، مثل أفريقيا وأستراليا وأوروبا ودول الخليج العربي التي جذبتهم في مراحل لاحقة.

تأثرت موجة الهجرة اللبنانية إلى أفريقيا بوقائع تاریخیة كبرى، مثل الحربين العالميتين الأولى والثانية، ونظام الانتداب الفرنسي على لبنان، والحرب الأهلية اللبنانية بين 1975 و1990.

في البداية، كانت رحلة اللبنانيين إلى أفريقيا نتيجة للصدف والأقدار، إذ توقفت رحلاتهم نحو أميركا عند شواطئ أفريقيا الغربية بسبب بعض العوامل غير المخطط لها في ذلك الوقت.

تروي بعض الروايات أن أوائل اللبنانيين الذين وصلوا إلى أفريقيا، كانوا في طريقهم إلى أميركا، لكنهم تعرضوا للخداع بشأن وجهتهم النهائية، حيث أقنعهم الناقلون بأن شواطئ السنغال وغينيا تقع في أميركا.

تشير تفسيرات أخرى إلى أن العديد من اللبنانيين الطامحين للهجرة لم يكن لديهم خيار سوى الدول الأفريقية بسبب انخفاض تكاليف السفر مقارنة بالرحلة إلى القارة الأميركية، بالإضافة إلى أن الدخول للكثير من بلدان غرب أفريقيا قبل عام 1923 لم يتطلب جواز سفر.

في تلك الفترة الزمنية، كانت بلدان غرب أفريقيا تمثل وجهة أكثر ملاءمة للمهاجرين القادمين من بيئات فقيرة، والذين لم يحصلوا على تعليم كافٍ، ويفتقرون إلى المهارات الفنية أو الخبرات العملية.

كل هذه العوامل جعلت الموجة الأولى من اللبنانيين في أفريقيا يعملون كباعة متجولين في الأسواق والشوارع والقرى، قبل أن ينتقلوا إلى تجارة التجزئة في المحلات الصغيرة، ثم تطور الأمر تدريجياً إلى نشاط تجاري منظم يحتكر مواد معينة في هذا البلد أو ذاك، مثل الكاكاو والقهوة في كوت ديفوار، والأخشاب في الغابون.

طوائف وإحصائيات

كان غالبية المهاجرين اللبنانيين إلى أفريقيا في البداية من المارونيين، قبل أن يتوافد عدد كبير من المسلمين الشيعة القادمين من جنوب البلاد، وكان القاسم المشترك بينهم هو الهروب من الاضطهادات السياسية والدينية والظروف الماليةية السيئة.

تشير إحصائيات لبنانية إلى أن 70% من المهاجرين اللبنانيين في أفريقيا هم من الشيعة الذين ينحدرون من جنوب لبنان، حيث زادت أعدادهم بشكل ملحوظ بين عامي 1975 و1990 (سنوات الحرب الأهلية).

ووفقاً لبعض المصادر المتخصصة في توثيق الهجرة وإحصائياتها، فإن أول قدوم للبنانيين إلى أفريقيا كان إلى السنغال عام 1860.

ومع بداية القرن العشرين، أصبح العدد بالمئات، ثم ارتفع بشكل ملحوظ بعد أن أصبحت لبنان تحت الانتداب الفرنسي الذي استعمِر أيضاً الدولة السنغالية، وكانت موانئها محطة مهمة لرعايا باريس.

تسارعت هجرة اللبنانيين إلى أفريقيا خلال فترة الاستعمار الفرنسي لكوت ديفوار، والسنغال، وغينيا، وكذلك خلال حقبة الاستعمار البريطاني لنيجيريا، وغانا، وسيراليون، وغامبيا.

تساهم العائلات والمواطنونات بطابع عائلي وطائفي في تعزيز الهجرة اللبنانية إلى أفريقيا، إذ يتطلب التضامن التكافلي تضافر الجهود لمساعدة الأقارب، سواء كانوا عائلياً أو مذهبياً، في الوصول إلى تلك البلدان.

ممثل دار الفتوى اللبنانية في السنغال/غرب أفريقيا الشيخ الدكتور محمد العوض بمشاركة السفير اللبناني ووجهاء الجالية ورؤسائها الروحيين يقدمون التعازي إلى أسرة الحاج مالك سي بوفاة الخليفة السنة للطريقة التيجانية في السنغال،
ممثل دار الفتوى اللبنانية بالسنغال محمد العوض ووجهاء الجالية في عزاء خليفة الطريقة التيجانية عام 2017 (مواقع التواصل)

لا توجد أرقام دقيقة حول عدد اللبنانيين في أفريقيا، لكن التقديرات تشير إلى أنهم يتراوحون بين 300 ألف و500 ألف نسمة، يعيش معظمهم في غرب ووسط أفريقيا في دول مثل كوت ديفوار (حوالي 100 ألف نسمة) والسنغال (حوالي 30 ألف نسمة)، ويمثلون واحدة من أكبر الجاليات في نيجيريا، حيث يتراوح عددهم بين 30 إلى 100 ألف نسمة، وفي الغابون أكثر من 15 ألف نسمة.

تنتشر أعداد أخرى من اللبنانيين في غانا، وغينيا، وليبيريا، وسيراليون، وبوركينا فاسو، ومالي، وبنين، وتوغو، وأنغولا، وجمهورية الكونغو الديمقراطية، والكونغو برازافيل، وغيرها من الدول في المنطقة.

فقراء أم أغنياء؟

يثير التاريخ الطويل لهجرة اللبنانيين إلى أفريقيا العديد من التساؤلات حول أوضاعهم وأدوارهم والصور النمطية المرتبطة بهم، وقد تتعلق هذه الأسئلة بشكل عام بالفقر والثراء والنفوذ التجاري.

ربما ما يعزز التساؤلات حول “نجاح” أو “ثراء” اللبنانيين هو التحول الكبير من بائعين متجولين في أواخر القرن الـ19 وبداية القرن الـ20 إلى رجال أعمال وأثرياء يقودون مجموعات اقتصادية كبرى في العقود الأخيرة.

تدفع الصور السائدة عن نجاح اللبنانيين في غرب أفريقيا عالمة الأنثروبولوجيا مروة الشاب للكتابة عن رجال الأعمال اللبنانيين في تلك المناطق.

تشير الباحثة اللبنانية إلى أن حوالي 10% من أفراد هذه الجالية يمكن اعتبارهم ناجحين اقتصادياً أو أغنياء، بينما يمكن تصنيف ما بين 70% و80% منهم ضمن الطبقة المتوسطة، والبقية يمكن اعتبارهم فقراء بمقارنة باللبنانيين الآخرين هناك.

وما زال بعض هؤلاء الأفراد يمارسون تجارة التجزئة الصغيرة في السنغال وغينيا، في ظروف تتسم أحياناً بالهشاشة، ويعتمدون على مساعدات مالية واجتماعية عادة ما تقدمها جمعيات أو هيئات تحت غطاء ديني من هذه الطائفة أو تلك.

غالبًا ما تتسم مكانتهم الاجتماعية بنوع من المفارقة، إذ ينظر إليهم أحيانًا بصفتهم مساهمين في تطوير البلدان التي يقيمون فيها، وأدوارهم المهمة في تعزيز اقتصاداتها، لكن في بعض الدول يُنظر إليهم كسبب لانتشار ممارسات اقتصادية سلبية مثل الاحتكار والقطاع التجاري السوداء والاحتيال الضريبي وتهريب المخدرات والأسلحة والألماس والمعادن النفيسة.

ترتبط الصور المتناقضة حول الجاليات اللبنانية في أفريقيا بالأوضاع السياسية والماليةية في كل بلد على حدة، إلا أن رجال الأعمال غالباً ما يحظون بالتقدير، خاصة في البلدان التي تتمتع باستقرار وأمان.

وزن اقتصادي

تعتبر الجالية اللبنانية في كوت ديفوار الأبرز من ناحية العدد والوزن الماليةي، حيث تشير إحصائية لعام 2018 إلى أن اللبنانيين يديرون أكثر من 3 آلاف شركة في قطاعات العقارات والنقل والصناعة والتوزيع، حيث يمثلون نحو 8% من الناتج المحلي الإجمالي.

ومن المثير للاهتمام أن نيجيريا شهدت في السنوات العشر الأخيرة زيادة في النشاط الماليةي، حيث أصبحت منصة جاذبة لرائد الأعمال اللبنانيين الذين يسعون لتوسيع وتنويع استثماراتهم.

وفقًا لبيانات غرفة التجارة الفرنسية اللبنانية لعام 2018، فإن مساهمة رجال الأعمال اللبنانيين في ليبيريا تبلغ حوالي 50%، وفي غانا تُقدّر بـ 25%.

تأثير سياسي

يساهم النشاط المكثف للبنانيين في مجالات التجارة والخدمات والتصدير والاستيراد والأنشطة المالية والعقارية في التأثير الماليةي، وأحياناً يمتد ذلك إلى التأثير السياسي.

بخلاف اللبنانيين في أميركا اللاتينية الذين انخرطوا في العمل السياسي، ظل نشاط الجالية في أفريقيا محدودًا في علاقاتها مع بعض الوزراء أو رؤساء الدول، لتعزيز مصالحهم الفردية أو الجماعية.

اجتماعيًا، لم يندمج اللبنانيون بشكل كامل في المواطنونات الأفريقية التي يعيشون فيها لأسباب ثقافية وأسرية، مما جعلهم يعيشون في بيئات وشبكات فنية وترفيهية خاصة بهم.

لكن مع مرور الوقت، بدأت بعض عوائق الاندماج تهدأ، حيث بدأت بعض الدول تفتح أبوابها للمهاجرين اللبنانيين للحصول على الجنسية.

مع هذه الظروف، بدأت تظهر أجيال جديدة من اللبنانيين يشعرون بأنهم جزء من الأرض التي استقبلت أجدادهم قبل أكثر من قرن، وبينما يظل ارتباطهم بوطنهم الأم عميقاً كما هو الحال مع المهاجرين في العديد من بلدان العالم.


رابط المصدر

إعلان

اترك رد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا