إعلان


فيلم “ذيل الكلب” (Wag the Dog) يظهر تعاون خبير تعديل الحقائق مع منتج هوليودي لصنع حرب وهمية لتشتيت انتباه الجمهور عن فضيحة القائد الأميركي. يتناول الفيلم مفهوم “المقامرة من أجل البقاء” حيث يلجأ القادة السياسيون لإشعال الحروب في أوقات الأزمات لتفادي فقدان السلطة. ويتجلى هذا المفهوم في سياسات بنيامين نتنياهو، الذي استمر في حرب غزة رغم فشله في تحقيق أهدافها، محاولًا استخدام الحرب كدرع سياسي ضد الانتقادات. هذا السلوك يعكس كيف يمكن للقادة أن يتصرفوا بصورة محفوفة بالمخاطر من أجل البقاء، وهو ما يُثبت بفشل تجارب سابقة مثل غزو الأرجنتين لجزر فوكلاند.

في الفيلم الأمريكي المعروف “ذيل الكلب” (Wag the Dog-1997)، يتعاون خبير تعديل الحقائق السياسية كونراد بريان (الذي يلعب دوره الممثل روبرت دي نيرو) مع المنتج الهوليودي ستانلي موتس (داستن هوفمان) لابتكار حرب وهمية في ألبانيا، وذلك لصرف انتباه الجمهور عن فضيحة أخلاقية تتعلق بالقائد الأمريكي قبل أيام من الاستحقاق الديمقراطي.

إعلان

يمثل الفيلم محاولة معدلة لتجسيد رواية الكاتب الأمريكي لاري بينهارت بعنوان “البطل الأمريكي” الصادرة عام 1993، التي افترضت أن عملية عاصفة الصحراء (التي دشنتها الولايات المتحدة بعد غزو صدام حسين للكويت) عام 1991 كانت مصممة في الأساس لضمان إعادة انتخاب القائد الأمريكي آنذاك جورج بوش الأب. يجسد الفيلم والرواية مفهومًا في العلوم السياسية يُعرف بـ “المقامرة من أجل البقاء” (Gambling for resurrection)، والذي يصف لجوء القادة السياسيين إلى تصرفات “غير تقليدية” لضمان بقائهم في أوقات الأزمات، بما في ذلك إشعال الحروب أو إطالة زمنها.

تخيّل مشهدًا سياسيًا مأزومًا: قائد يتراجع حضوره الشعبي، تتوالى فضائحه، وتظهر أزماته دون أفق واضح للحل في ظل ضغط خصومه الذين يستعدون لاستغلال الفرصة للإجهاز عليه.

تَعِدُ الأرقام والمؤشرات بنهاية وشيكة لحياته السياسية، وتبدو الأدوات السياسية التقليدية للتهدئة أو محاولاته لكسب الوقت غير مجدية. حينها، وعندما يشعر القائد بأن خسارته الشخصية مؤكدة إذا استمرت الأوضاع كما هي، يُغري نفسه بالذهاب نحو تصعيد غير محسوب، من خلال فتح جبهة صراع جديدة أو توسيع نطاق صراع قائم بشكل يتجاوز المعقول سياسيًا أو استراتيجيًا.

تظهر هذه السمات بوضوح في حالتين على أرض الواقع في الوقت الحالي، وهي قرار بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلي، بالاستمرار في حرب الإبادة ضد قطاع غزة التي استمرت لنحو 20 شهرًا. على الرغم من اعتراف الإسرائيليين بأن الحرب لم تحقق أهدافها السياسية، تستمر نتنياهو في تغذية المواجهة لتفادي الخسارة الشخصية، ويقوم بتوسيع نطاق المواجهة بطرق لا تتماشى مع الأهداف العسكرية والاستراتيجية الممكنة.

المقامرة من أجل البقاء

ظهر مصطلح “المقامرة من أجل البقاء”، المعروف أيضًا بـ”المقامرة من أجل البعث”، رسميًا لأول مرة في تسعينيات القرن الماضي بفضل الباحثين في العلوم السياسية جورج دبليو داونز وديفيد م. روك، اللذان لاحظا كيف يسعى القادة الذين يواجهون خسارة وشيكة لمناصبهم إلى اتخاذ تدابير راديكالية ويائسة على أمل تحقيق نجاح ينقذ مسيرتهم المهنية، وقدما هذه الرؤية في كتابهما “النقص الأمثل؟.. عدم اليقين الداخلي والمؤسسات في العلاقات الدولية” (Optimal Imperfection? Domestic Uncertainty and Institutions in International Relations) الصادر عام 1995.

بحسب رؤية داونز وروك، يمكن لمغامرة عسكرية أن تحشد الناس من خلال توحيدهم ضد عدو خارجي وتشتيت الانتباه عن إخفاقات القائد في الداخل. في حالة نشوب حرب بالفعل، قد يرفض القائد تقليل الخسائر أو صنع السلام، لأن ذلك يعني سقوطه الشخصي، وبدلاً من ذلك، يُواصل القتال بهدف حشد الناس حول قضية ما، آملاً في تغير الموازين.

يُعرف ذلك الاحتشاد الجماهيري بـ”تأثير الالتفاف حول الراية” (Rally ’round the flag)، والذي يعني زيادة (عادة ما تكون قصيرة الأمد) في الدعم الشعبي لقادة أو حكومة بلد ما خلال أوقات الأزمات الوطنية أو الحروب، ويتجلى هذا التأثير بشكل خاص خلال التهديدات الخارجية، مثل المواجهةات العسكرية والهجمات التطرفية والكوارث الطبيعية واسعة النطاق.

في أوقات الأزمات، يشعر المواطنون بشعور أقوى بالهوية والوحدة، مما يؤدي غالبًا إلى دعم القيادة الحالية، بغض النظر عن كفاءتها ونزاهتها. في هذا السياق، يُنظر إلى انتقاد القيادة خلال هذه الأوقات على أنه عمل غير وطني، مما يعزز بشكل عام كتم الأصوات المعارضة. كما أن وسائل الإعلام تُركز كثيرًا على تصرفات السلطة التنفيذية الإيجابية، مما يمنح القادة إطارًا جذابًا يصرف الانتباه عن الإخفاقات والأزمات الداخلية.

اليوم، يُعتبر “تأثير الالتفاف حول الراية” من المسلمات في علم الاجتماع السياسي، وقد أثبتت العديد من الدراسات ذلك في بيئات ومجتمعات وسياقات مختلفة. على سبيل المثال، بعد هجمات 11 سبتمبر، ارتفعت نسبة تأييد جورج بوش الابن من 51% إلى قرابة 90% خلال أيام فقط، وحرصت على البقاء فوق الـ 80% خلال الأشهر التالية، وفقًا لدراسة بعنوان “11 سبتمبر وتأثير الراية” صدرت عام 2002.

قبل ذلك، خلال أزمة الصواريخ الكوبية، ارتفعت نسبة تأييد القائد جون كينيدي إلى 74%، وبلغت ذروتها في ديسمبر 1962 عند 76%، قبل أن تتراجع تدريجيًا إلى 61% في يونيو 1963. وبالمثل، حقق القائد فرانكلين روزفلت زيادة قدرها 12 نقطة مئوية في نسبة التأييد من 72% إلى 84% بعد الهجوم على بيرل هاربر في ديسمبر 1941.

A display shows excerpts to U.S. President John F. Kennedy's October 22, 1962 televised address about the Cuban Missile Crisis, part of an exhibit titled
مقتطفات من الخطاب التلفزيوني الذي ألقاه القائد الأمريكي جون ف. كينيدي في 22 أكتوبر 1962 حول أزمة الصواريخ الكوبية (رويترز)

دعونا ننوّه هنا، أن كل ما سبق قد حصل مع قادة لم يواجهوا تحديات شخصية غير تقليدية لمستقبلهم السياسي، لكنهم استفادوا من الأزمات لتعزيز فرصهم، فكيف حال قائد يواجه بالفعل مشكلات سياسية، لا تقل عن ذلك الفساد وسهام المحاكمات الموجهة إليه من كل جانب؟ هنا يصبح التصعيد أكثر جذابية من السلام، حيث يتعاظم لدى القائد الشعور بأنه ليس ثمة ما يخسره، إذا انسحب الآن، فقد انتهى أمره حتمًا، بينما إذا استمر في مسيرته وانتصار بطريقة ما، فقد ينجو سياسيًا.

يشبه الأمر لاعب بوكر يراهن بكل شيء بعد خسارته لجولات عدة، لأن الانسحاب يعني هزيمة مؤكدة. وبالمثل، بمجرد أن يُدرك القائد أن رحيله أو عزله شبه مؤكد، لا يبقى هناك أي خطر شخصي في المقامرة على نصر أخير.

تصف ورقة بحثية بعنوان “صراعات الإلهاء: شيطنة الأعداء أم إظهار الكفاءة؟” نُشرت في مجلة “إدارة المواجهةات وعلوم السلام” (Conflict Management and Peace Science) هذا الأمر بأنه اقتراح منخفض المخاطر وعالي المكافأة من وجهة نظر القائد؛ فعندما تكون على وشك فقدان السلطة، فإن “الجانب السلبي” لمغامرة فاشلة يكون ضئيلاً، ولكن الجانب الإيجابي للنجاح قد يكون الاحتفاظ بالمنصب رغم كل الصعاب. باختصار، اليأس يولد الجرأة، وضعف موقف القائد يدفعه أكثر لتبني حلول متطرفة قد يتجنبها قائد واثق.

علم نفس المخاطرة تحت الضغط

تشير الأبحاث النفسية إلى أن البشر يتصرفون بطرق مختلفة عندما تكون المخاطر مرتفعة والنتائج المتوقعة تبدو قاتمة. يحدث ذلك لأن الضغط والأزمات يُضعفان القدرة على اتخاذ القرارات السليمة ويشجعان على اتخاذ مخاطر أكبر. بعبارة أخرى، عندما نشعر بالتهديد، قد تؤدي عقولنا إلى اتخاذ إجراءات جريئة وغير محسوبة بدلاً من التصرف بأنذر. ولا شك أن القائد الذي يتعرض للفشل يتعرض لضغط كبير، مما يُركّز على فكرة البقاء على المدى القصير ويجعل خيار “النجاة الشخصية” يبدو جذابًا.

تساعد فكرة أساسية من علم المالية السلوكي تُعرف بـ”نظرية التوقعات” (Prospect theory) في توضيح هذا الأمر، وهي واحدة من أهم النظريات التي شرحت كيفية اتخاذ الناس لقراراتهم في مواقف تتضمن المخاطر أو عدم اليقين في حياتهم اليومية. وتتلخص الفكرة الأساسية للنظرية في أن الناس لا يتخذون قراراتهم بشكل منطقي بنسبة 100%، بل يتأثرون بالعديد من العوامل، بما في ذلك مشاعر الخسارة والربح.

على سبيل المثال، توضّح النظرية أن الناس يكرهون الخسارة أكثر من حبهم للربح، بمعنى أن خسارة مبلغ معين من المال “توجع” أكثر بكثير من فرحة ربح المبلغ نفسه، وهذا يُعرف بـ”النفور من الخسارة”.

عندما يشعر الفرد أنه يخسر (أو فقد شيئًا مهمًا)، فإنه لا يتصرف بعقلانية، بل يدخل في ما يُسمى “منطقة الخسارة” بحسب النظرية، حيث يصبح الخوف من الخسارة أكبر من الرغبة في الكسب، مما يجعل الشخص مستعدًا للمخاطرة بشكل أكبر لتجنب الخسارة؛ بغض النظر عن أي ربح ممكن.

في الواقع، هذا التأثير واسع الانتشار، ولا يقتصر على الإستراتيجية. ففكرة “المقامرة من أجل البقاء” ليست مقصرّة على الحروب أو الإستراتيجية فقط، لكنها تمتد إلى كل مجالات الحياة. لأنها تعتمد في الأساس على عاملين، الأول هو طبيعتنا النفسية والثاني هو نظرية الألعاب، التي تفسر كيفية اتخاذنا للقرارات المتعلقة بالربح والخسارة.

تخيل مثلاً مدرب كرة قدم يعلم أنه سيُفصل إذا خسر الفريق المباراة التالية (احتمال خسارة 100%)، هنا يمكن أن يختار تكتيكاً جريئاً، حتى لو لم يكن مرجحاً أن ينجح. على سبيل المثال، إذا كانت فرص نجاح هذا التكتيك 0.001%، فستظل أفضل من احتمالية خسارة منصبه بنسبة 100%.

استخدم الماليةيون مفهومًا مشابها لوصف سلوك الأفراد والكيانات خلال الأزمات المالية. على سبيل المثال، خلال فشل البنوك أو شركات التأمين في الأزمات الماليةية الكبرى، قد تقدم الشركات التي تمر بأوقات صعبة على اتخاذ مخاطر مالية كبيرة على أمل تحسين أوضاعها.

خلال الأزمة المالية العالمية عام 2008، على سبيل المثال، لاحظ الباحثون أن بعض البنوك التي كانت على وشك الانهيار فعلت ذلك عن طريق التخلص من شبكات الأمان (التحوطات) لتعظيم أرباحها على المدى القصير، متحملة بذلك مخاطر أكبر. إذا نجحت تلك المقامرة، سيستفيد المساهمون، وإذا فشلت، ستتحمل السلطة التنفيذية أو دائنوها الخسائر، لكن الانهيار كان قادمًا لا محالة في كل السيناريوهات.

من راهنوا على النجاة

لكن المشكلة الأساسية في مبدأ “المقامرة من أجل البقاء” هي أنها كثيرًا ما تأتي بنتائج مأساوية تتجاوز تأثيراتها القائد المأزوم نفسه. من الأمثلة الكلاسيكية التي يستشهد بها الباحثون على ذلك غزو الأرجنتين لجزر فوكلاند عام 1982. في ذلك الوقت، كان المجلس العسكري الأرجنتيني، بقيادة الجنرال ليوبولدو غاليتييري، يواجه استياء داخليًا شديدًا، حيث كان المالية في حالة يرثى لها، وشعبية النظام الحاكم متدنية. في أبريل/نيسان 1982، شن غاليتييري غزواً لجزر فوكلاند الخاضعة للسيطرة البريطانية، بدعوى تأكيد مدعاة الأرجنتين الإقليمية القديمة بالجزر.

نجحت الخطة لفترة وجيزة، إذ احتشد الأرجنتينيون في البداية لدعم الحرب، لكن هذه المغامرة فشلت، حيث شنت رئيسة الوزراء البريطانية مارغريت تاتشر هجومًا مضادًا وانتصرت في الحرب، وهُزمت القوات الأرجنتينية، وأُزيح غاليتييري من السلطة على الفور. تُظهر حرب فوكلاند كيف يمكن أن تأتي المقامرة من أجل البقاء بنتائج عكسية، مُسرعة من تحقيق النتيجة التي كان يخشاها القائد (فقدان السلطة) ومُسببة تكاليف إضافية على طول الطريق.

على غرار حرب فوكلاند، هناك العديد من الأمثلة التاريخية التي يُصنفها الباحثون ضمن إطار “المقامرة من أجل البقاء”، منها الضربات العسكرية الثلاثة التي وجهتها إدارة بيل كلينتون الأمريكية ضد العراق (العملية ثعلب الصحراء في يناير 1998) وضد أهداف في السودان وأفغانستان (العملية إنفينيت ريتش في أغسطس 1998) وأخيرًا عملية بلغراد التي قادها الناتو ضد يوغوسلافيا عام 1999، والتي اعتبرها معارضو كلينتون وخبراء مستقلون محاولة للفرار من تداعيات الفضيحة الجنسية المعروفة باسم “مونيكا غيت”.

مقامرة نتنياهو بحرب غزة 2023

لنفهم كيف تتجلى المقامرة من أجل البقاء في السياسية المعاصرة، دعونا نلقي نظرة على حالة بنيامين نتنياهو خلال حرب غزة 2023. قبل اندلاع الحرب، كان نتنياهو، أطول رؤساء الوزراء الإسرائيليين خدمة، يعاني من أزمة حادة في حياته السياسية، فخلال عام 2023، تراجعت مكانته محليًا بشكل ملموس بسبب تورطه في عدة قضايا فساد تتداولها المحاكم، في الوقت الذي أثارت فيه محاولات حكومته إضعاف القضاء احتجاجات جماهيرية غير مسبوقة، ولفتت استطلاعات الرأي إلى أن حزبه الحاكم، الليكود، كان يواجه مأزقًا خطيرًا.

نتنياهو ووزير الدفاع يسرائيل كاتس بإحاطة حول سير تقدم العلميات العسكرية بغزة بعد استئناف الحرب على القطاع. المصدر: مكتب الصحافي الحكومي الإسرائيلي، عممها للاستعمال الحر لوسائل الإعلام
نتنياهو ووزير الدفاع يسرائيل كاتس بإحاطة حول سير تقدم العلميات العسكرية بغزة بعد استئناف الحرب على القطاع. (مكتب الصحافة الحكومي الإسرائيلي).

بحلول أواخر صيف 2023، كان عشرات الآلاف من الإسرائيليين يتظاهرون بانتظام احتجاجًا على قيادة نتنياهو؛ وبدت سلطته أكثر هشاشة مما كانت عليه منذ سنوات. ثم في 7 أكتوبر 2023، شنت حماس هجومًا مباغتًا، وفيما كان ذلك يُعتبر فشلاً أمنيًا ألقى العديد من اللوم فيه على حكومة نتنياهو، خلق أيضًا لحظة من الاحتشاد حوله، تتماشى مع “تأثير الالتفاف حول الراية”.

شكل نتنياهو على الفور حكومة وحدة وطنية طارئة، وبدأ حربًا ضد غزة، وللحظة، هدأت الانتقادات الموجهة إلى أخطاء السلطة التنفيذية السابقة، حيث ركز الإسرائيليون على القتال الحالي. توقفت الاحتجاجات الضخمة ضد نتنياهو؛ وانضم إليه قادة المعارضة في حكومة حرب. في البداية، حظي نتنياهو بدعم قوي، حيث اتحد الإسرائيليون ضد عدو مشترك، لكن مع استمرار الحرب وازدياد الخسائر، بدأت الآراء السنةة في الانقسام.

بحلول عام 2024، عادت العديد من الاحتجاجات إلى الشوارع، وهذه المرة كان المدعاون بوقف إطلاق النار وعودة الأسرى المحتجزين في غزة. عادت الضغوط المحلية على نتنياهو للظهور: بحلول سبتمبر 2024، اعتقد حوالي 70% من الإسرائيليين أنه يجب على نتنياهو الاستقالة بسبب تعامله مع الحرب.

ومع ذلك، رفض نتنياهو الحديث عن الاستقالة أو حتى وقف القتال لفترة طويلة. بل صعّد من مدعاه، مُصرًا على شروط لوقف إطلاق النار كانت معروفة بأنها سترفض، مما أدى إلى إطالة أمد الحرب فعليًا، وهو ما حدث في إطار دعم أمريكي كامل للعملية العسكرية في غزة.

يجادل المحللون بأن تعنت نتنياهو خلال حرب غزة يمثل مثالًا واضحًا على “مقامرة البقاء” من خلال رفع الرهانات. في مواجهة انتقادات داخلية شديدة وإمكانية انتهاء مسيرته السياسية إذا ظهر ضعيفًا أو إذا انتهت الحرب بشكل سيء، استمر نتنياهو في رفع الرهانات. كتب غوتام موكوندا، باحث في مركز القيادة السنةة بكلية كينيدي بجامعة هارفارد، أن “السبب الوحيد لعدم وجود نتنياهو في السجن هو أنه رئيس وزراء حاليًا والبلاد في حالة حرب”، مشيرًا صراحة إلى أن الحرب تمثل درعًا لنتنياهو ضد المساءلة الشخصية.

بالفعل، طالما بقيت إسرائيل في حالة حرب، يمكن لنتنياهو الدعوة إلى الوحدة الوطنية وتأجيل “يوم الحساب” حول إخفاقاته السابقة. بصفته رئيس وزراء Israel حالي، يستطيع نتنياهو تعطيل أو إبطاء الإجراءات القانونية المتعلقة بتهم الفساد الموجهة إليه. ولكن إذا اضطر لتسليم منصبه، فإن تلك المحاكمات (والإدانة المحتملة) ستلوح في الأفق. من هذه الزاوية، يمكن اعتبار الحفاظ على منصبه كما وصفه موكوندا “بطاقة خروج قريبة من السجن” لنتنياهو.

تحركات ترامب بالشرق الأوسط تربك إسرائيل سياسيا وعسكريا، في الصورة رئيس الأركان إيال زامير برفقة رئيس الوزراء نتنياهو ووزير الدفاع يسرائيل كاتسن في غرفة العلميات خلال تعقب الهجمات الإسرائيلية الأخيرة على مواقع للحوثيين في اليمن (جميع الصور من تصوير مكتب الصحافة الحكومي الإسرائيلي التي عممها للاستعمال الحر لوسائل الإعلام)
تحركات ترامب بالشرق الأوسط تربك إسرائيل سياسيا وعسكريا، في الصورة رئيس الأركان إيال زامير برفقة رئيس الوزراء نتنياهو ووزير الدفاع يسرائيل كاتسن في غرفة العمليات خلال تعقب الهجمات الإسرائيلية الأخيرة على مواقع للحوثيين في اليمن. (مكتب الصحافة الحكومي الإسرائيلي)

طبيعة الحرب

يمكن تفسير قرار نتنياهو باستمرار الحرب أيضًا من خلال الكتاب المعروف “الحرب والعقاب: أسباب انتهاء الحروب والحرب العالمية الأولى” (War and Punishment: The Causes of War Termination and the First World War) للباحث هاين غومانز، الذي يُعرف بتطبيقه نظرية الألعاب على المواجهةات الدولية.

يوضح غومانز أن قرارات القادة بمواصلة الحروب أو إنهائها لا تتأثر فقط بالنتائج العسكرية، بل بالعواقب السياسية للخسارة أيضًا، وخاصة الخوف من فقدان السلطة أو العقاب. بكلمات أخرى، لا تنتهي الحروب بالضرورة عند “هزيمتها” عسكريًا، بل تنتهي عندما يرى القادة نتائج سياسية مقبولة لأنفسهم، وهذا يتحدى الفرضية العقلانية القائلة بأن الدول تتوقف عن القتال عندما تفوق تكاليف الحرب فوائدها.

وفقًا لذلك، وضع غومانز 3 شروط لإنهاء أي حرب. الشرط الأول هو تقارب التوقعات (يجب أن يتفق الطرفان على نتيجة استمرار القتال، فإذا توقع كل طرف نتائج مختلفة، سيواصلان القتال)، الثاني هو وجود شروط سلام مقبولة (يجب أن تكون هناك تسوية تفاوضية ممكنة يفضلها الطرفان على استمرار الحرب)، الثالث هو استعداد القادة لقبول شروط السلام، بغض النظر عن بقية الأمور. يشير غومانز إلى أنه حتى عند تحقق الشرطين الأول والثاني، قد يرفض القادة السلام إذا خشوا العقاب المحلي بعد انتهاء الحرب.

طبّق غومانز نظريته على ألمانيا خلال الحرب العالمية الأولى، التي واجهت معارضة داخلية وانهيارًا اقتصاديًا، وفي النهاية ثورة عارمة. كان القادة الألمان يخشون الانتفاضات الثورية وفقدان النظام الحاكم الملكي أكثر من خشيتهم من الهزيمة نفسها، مما أجل الاستسلام حتى في عام 1918 عندما كانت الأوضاع العسكرية ميؤوس منها، وأصبح الخوف من العقاب السياسي بعد الحرب هو المحرك لقرارات القادة الألمان.

إلى جانب ذلك، يشرح غومانز موقف الإمبراطورية النمساوية-المجرية، التي كانت تعاني من ضغوط داخلية، لذا كان القادة يخشون أن يؤدي إنهاء الحرب مبكرًا إلى تسريع الانهيار الداخلي والثورات القومية، وبالتالي استمرت المواجهة رغم الإرهاق العسكري. في المقابل، أجل القيصر نيكولاس الثاني السلام حتى مع انهيار الجبهة الروسية، وأُطيح به في نهاية المطاف في ثورة فبراير 1917.

ومع ذلك، من المهم الإشارة إلى أن ليس كل قائد محاصر سيبدأ حربًا أو يُسبب أزمة، فالكثير من السياسيين يفضلون القبول بالهزيمة أو البحث عن حلول بديلة. تشير الدراسات إلى أن صراعات “الإلهاء” أو رهانات “البقاء” و”البعث” نادرة نسبيًا، رغم حدوثها في ظروف معينة.

لكن، ما هي تلك الظروف المحددة؟ لا توجد إجابة واضحة لهذا السؤال، لكن يعتقد العديد من الباحثين أن الأمر لا يقتصر فقط على نظرية الألعاب ونسبة احتمالات النجاح، بل له جوانب شخصية ونفسية. الحكام الذين يشعرون بشكل مبالغ فيه بأهمية الذات، أو لديهم حاجة مستمرة للإعجاب، يرون في الحرب فرصة لإظهار قوتهم وهيمنتهم، وإثبات أنهم “القائد الذي لا يُقهر”، مما يعوض عن شعورهم بالنقص أو الفشل الداخلي.

بمعنى آخر، يركز الحكام النرجسيون على تحقيق “انتصارات” تخدم صورتهم الذاتية المتضخمة، حتى لو كانت تلك الانتصارات وهمية أو مُكلفة للغاية. خاصة أن القادة النرجسيين في الغالب يكونون شديدي الدفاعية، وأي نقد قد يجبرهم على “القتال” لإثبات تفوقهم وتفاهة منتقديهم.

من الناحية النفسية، تظهر هذه السمات في شخصية بنيامين نتنياهو، حيث أفادت دراسة من جامعة تل أبيب أنه يمتلك درجة عالية من التمحور حول الذات، ولا يتردد في استغلال الآخرين، بما في ذلك زملاؤه، لتحقيق النجاح الشخصي. يرى أن رأيه فقط هو الصواب، ومن يتفق معه هم جهلة بالعمليات التاريخية أو السياسية، كما أنه يعيش في عالمه الخاص، ويجد صعوبة في التمييز بين الأبعاد الشخصية والسياسية في حياته، وفقًا للدراسة.


رابط المصدر

إعلان

اترك رد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا