تروي قصة الجندي، التي بدأت بحادثة مؤلمة حيث نسيت والدتها طفلتها في مغارة خلال هروبهم من قريتهم عام 1948. شهدت عائلتها التهجير من قريتهم المسماة المنسي، وانتقلت إلى مخيمات أخرى تتعرض لتدمير متزايد. اليوم، يتكرر مشهد النكبة بعد 77 عاماً، مع احتلال يتسبب بتهجير إضافي، كما هو حال الأسرة التي فقدت منازلها في مخيم نور شمس. يعكس المُعاناة المستمرة، حيث يعيش اللاجئون ظروفاً قاسية وأحلاماً مستحيلة بالعودة. الأجيال الجديدة تكبر على فكرة التهجير، مما يعيق آمالهم في استعادة وطنهم وأرضهم المنهوبة.
جنين- “نسيت والدتي طفلتها الرضيعة في مغارة على الطريق بين جنين وطولكرم بعد تهجيرها من قرية المنسي في قضاء حيفا عام 1948″، بهذا الحادث المؤلم بدأت الجندي (53 عاماً) حديثها عن ذكريات عائلتها مع النكبة.
هجرت عائلة الجندي من قريتها إلى منطقة جنزور في جنين، حيث قطعت الطريق سيرا على الأقدام وبقيت هناك لبضعة أشهر حتى جاء الشتاء القاسي الذي أحضر الثلوج، مما اضطر الناس للنزوح مرة أخرى، فانتقلت العائلة إلى طولكرم وقضت أياما في العراء، وفي الطريق لجأت إلى مغارة، وعندما أكملت رحلتها كانت الأم قد نسيت طفلتها الرضيعة.
ولم تتذكر الرضيعة إلا عند وصولها إلى مخيم نور شمس في طولكرم، حيث كانت محطة للاجئين القادمين من جنزور. مر يوم كامل قبل أن يعثر الناس على الرضيعة ويحملوها إلى والدتها.

مشاهد مكررة
تقول الجندي: “كان النمل يغطي جسدها الصغير، كما أخبرت والدتي، ولم تكن وحدها، فكثير من الناس تركوا خلفهم ثروات وأشياء ثمينة، فالطريق طويلة جداً وقد مشى الناس عليها”، على حد تعبير الجندي للجزيرة نت.
يتذكر سكان المخيمات في شمال الضفة الغربية أحداث النكبة، ويشعر من عايشها أو سمع تفاصيلها أن هذه المشاهد تتكرر بعد 77 عاماً. ويرون أن المصطلحات قد تكررت بدقة، لكنها تختلف عن 48 من حيث الألم والضغط وقسوة الظروف.
تقول الجندي: “ما يحدث الآن في المخيمات هو نكبة جديدة، لكنها أكثر قسوة. على الرغم من صعوبة ما حدث سابقًا من تهجير وقتل، فإن ما نعيشه اليوم في المخيم يمثل نمطاً جديداً للاحتلال لم يتم تطبيقه لا في 48 ولا في كل مراحل الاحتلال الإسرائيلي لـفلسطين، حيث يقوم على تهجير الناس وهدم مباني كاملة ثم عدم السماح لهم بالعودة للبناء من جديد”.

نزحت نهاية من منزلها في مخيم نور شمس في اليوم الثالث للعملية العسكرية الإسرائيلية، حيث حوصرت مع ابنتها البالغة 14 عاماً لمدة 72 ساعة، بينما هربت والدتها (100 عام) من منزلها على الشارع القائدي للمخيم إلى منزل بناتها في منطقة جبلية. وبعد إبلاغ جيش الاحتلال بضرورة إخلاء المنزل، تم تهجيرها بمساعدة سيارة إسعاف إلى ضاحية إكتابا في مدينة طولكرم. وتقول إن والدتها دائمًا ما تعيد: “أنا شخص كتبت له التهجير طوال حياته”.
وقد هجّر الاحتلال 13 ألف شخص من مخيم نور شمس شرق طولكرم، هم في الأصل لاجئون، كانت إسرائيل قد طردتهم من قراهم ومدنهم في حيفا ويافا وعكا وغيرها. ويرى الأهالي أن خطة الاحتلال هي إعادة الأراضي التي هُجِّروا منها إلى حالتها عام 1948 من خلال تغيير معالمها وهدم المنازل لإحداث مساحات فارغة في عمق المخيمات.
تضيف الجندي أن “نور شمس بُنيت بطريقة حالت دون دخول قوات الاحتلال إلى أحيائه، وهو ما لا تريده إسرائيل. واللافت أن الخرائط التي وزعها جيش الاحتلال للمنازل التي سيتم هدمها في المخيم تشبه تلك الموجودة لدى وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) في السنوات الأولى لبنائه، مما يعني أن إسرائيل تسعى لإعادته إلى وضعه عام 1953″.
مستقبل مجهول
في “حرش السعادة” بالقرب من بلدة برقين، يتذكر جميل سلامة حديث والده عن تهجيرهم من قرية أم الزيات في قضاء حيفا بعد هجوم “العصابات الصهيونية” ومقتل عمه قاسم سلامة. ويشير إلى أن ما روى والده يشبه كثيراً ما يحدث اليوم في جنين، لكن الوضع الحالي أصعب لأن حياة الناس توقفت ومستقبلهم مجهول.
يرى سلامة أن العودة إلى المخيم باتت حلماً، وأن الحياة فيه أصبحت مجرد ذكرى بكل تفاصيلها. يقول: “العالم كله مستمر في حياته بينما انتهت حياة ساكني المخيم، حتى بعد انسحاب القوات المسلحة، كيف سيتم إعادة إعماره؟ حياتنا تغيّرت ونعيش ظروفاً قاسية للغاية، لا أمان ولا سكن في ظل ظروف اقتصادية سيئة جداً”.
يعتبر سكان المخيم أن بعض المفاهيم تأثرت بعد هدم الاحتلال للمخيمات، فأصبح مفهوم العودة مرتبطاً بخروج الاحتلال من المناطق وعودة النازحين إليها، بينما تم استبدال مفهوم اللاجئ بالنازح، والأجيال الجديدة ستكبر على فكرة التهجير داخل الضفة وليس من أراضي الـ48.

وفقاً لعبد الرحمن الزبيدي، فإن ما يعيشونه اليوم هو النكبة ذاتها، وهي من أكبر وأقسى النكبات التي مرت على الشعب الفلسطيني. يتحدث للجزيرة نت عن شعور أهالي المخيم بعد 4 أشهر من تهجيرهم وتشتتهم في بلدات جنين وقراها.
يقول: “عمري 51 عاماً، سمعت الكثير عن أحداث عام 48 وما بعدها، وقرأت كثيراً عن صراعنا الفلسطيني مع الاحتلال، كل ما أراه اليوم في مخيم جنين يعيد إلى ذهني ما سمعته، ويتحول مباشرة إلى صور قاتمة تتجسد أمامي على أرض الواقع وأعيشها أنا والعائلة التي لجأت من قيسارية إلى جنين، ليس فقط معاناة الهجرة، بل كل التفاصيل التي حدثت معهم سواء أفراح أو أحزان”.
نكبة جديدة
ويتابع الزبيدي: “النظام الحاكم نفسه للنكبة قد عاد بكل تفاصيله، نحن عاشنا كل ما رواه لنا آباؤنا، مما يؤكد أن كل ما مر به أهلنا وأجدادنا كان حقيقياً وصادقًا، وقد شهدناه الآن نحن وأطفالنا الذين سيذكرون ما حدث لعقود قادمة”.
ووفقاً له، فإن سكان المخيم يؤمنون بأن المنزل هو وطن صغير وهم جميعاً متعلقون به، و”لكن الاحتلال هدم هذا الوطن”. ويقول: “أصعب أنواع القهر والظلم هو تهجير أي إنسان، لا أحد يحق له طرد شخص من أرضه أو بيته، نحن وُلدنا في أراضينا عام 48، وسنعود إليها حتى لو بعد سنوات طويلة”.
يعيش الزبيدي في قلق منذ بداية العملية العسكرية الإسرائيلية في المخيم، حيث انتقل في البداية إلى بلدة الزبابدة ثم إلى منطقة واد برقين، لكنه لم يستطع الابتعاد عن بيته، ويظل يوميًا يترقب شروق الشمس ليذهب إلى أقرب منطقة مطلة عليه ويقضي وقتاً طويلاً وهو يراقبه، كما يؤكد.
يعتبر سكان مخيم جنين أنه نقطة انتظارهم لحين العودة إلى الناصرة وقيسارية ويافا والمنسي وزرعين، حيث بوسعهم النظر إليها. واليوم، أصبح المخيم منطقة عسكرية إسرائيلية مغلقة يُمنع الدخول إليها أو الاقتراب منها، وصار حلماً لكل اللاجئين للعودة إليه وإعادة بنائه من جديد.
يؤكد الزبيدي أن “لاجئي المخيم سكنوا جنزور قرب بلدة قباطية عام 1948، لكن جنزور لا تطل على قراهم التي هُجِّروا منها، لذا بنوا خيامهم في مخيم جنين ليكونوا في انتظار العودة. اكتشفت بعد بلوغي 50 عاماً أن مجرد رؤية البلاد من المخيم هي جزء من احتياجاتي كصاحب لهذه الأرض، وهو رأي كل الأهالي: إذا لم نستطع الوصول إلى البلاد، فعلى الأقل نراها”.
ويختتم قائلاً: “كل حياتنا انتظار؛ ما دام الاحتلال مستمراً، فنحن ننتظر العودة، ليس فقط للبيت والأرض، بل للحياة الطبيعية التي حرمنا منها كباقي شعوب العالم”.