بين محافظتي لحج وعدن جنوبي اليمن، وتحديدا في بلدة الفيوش الصغيرة التي لا يتجاوز عدد سكانها بضعة آلاف، كان الشيخ السلفي الشهير “عبد الرحمن بن عمر العدني” يجمع حوله من طلاب العلم، في دار الحديث في الفيوش، ما يصل عدده ببعض الأحيان إلى ألفي طالب وطالبة، أي ما يوازي عدد سكان البلدة كلها، بينهم أكثر من ٣٠٠ طالب أجنبي من إندونيسيا والصومال والجزائر والمغرب وفرنسا وغيرها، قدموا تحديدا ليستمعوا للشيخ العدني.
أسس الشيخ العدني دار الحديث بعد رحلة علمية طويلة بدأها شابا صغيرا وهو في عامه السادس عشر، عام ١٩٨٦، من عدن القريبة، ثم إلى دماج حيث كان التلميذ النجيب للشيخ “مقبل بن هادي الوادعي”، المعروف بـ “مجدد السلفية” في اليمن، ومن كان منطلقًا له إلى أئمة السلفية في العالم، وعلى رأسهم المشايخ السعوديين “ابن عثيمين” و”ابن باز” في القصيم، و”الجامي” و”المدخلي” في المدينة، وغيرهم من كبار مشايخ السلفية، ليعود بعدها بين يدي “الوادعي” إلى أن توفيّ الأخير، لينتقل العدني إلى الفيوش التي أسس بها دار الحديث.[1]
بنظرة سريعة على الأسماء التي مر عليها العدني، يمكننا أن نتصور طبيعة الأعلام الواردة في دروسه، ما بين ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب وابن عبد البر، فهو الذي يورد عنه، بجانب مودته ورقته، الكلمة المأثورة لدى السلفيين: «لو أنفقنا كل أوقاتنا من الصباح إلى الليل ما عملنا ما عمله السلف». كما يمكن تخيل المنهج السياسي الذي يتبعه بوضوح معبرًا عنه بقوله: «من أصول أهل السنة السمع والطاعة لولاة أمور المسلمين في المعروف»، كما لن يكون من المستغرب أن يكون وصفه لما يجري في اليمن ككل، وفي عدن تحديدا، بأنها «فتنة»، وفي الوقت نفسه وقوفه لجانب ما يسمى بـ “التحالف”، رغم أخطاءه ومثالبه، بحسب ما يروي في خطبة شهيرة.
بعد قرابة عامين من مقتل “العدني”، كشفت مصادر وصفها “العربي” بالموثوقة بأن الحاكم العسكري الإماراتي الذي كان متواجدا في عدن حينها تسلم فريق الاغتيال، وقام بإرساله مباشرة في اليوم نفسه إلى العاصمة الإماراتية أبو ظبي عبر طائرة حربية خاصة بشكل سري، مضيفة أنه «من تلك اللحظة تم إخفاء ملف القضية بشكل نهائي حتى اليوم».
في ذلك الوقت، كان “الزبيدي”، محافظ عدن السابق، والذي يمكن وصفه بأنه رجل الإمارات في اليمن، هو الحاكم الإماراتي العسكري الفعلي للجنوب، قبل أن يعلن في وقت لاحق من تلك الحادثة عن تشكيل “المجلس الانتقالي الجنوبي”، مشروع الإمارات في اليمن والداعي لانفصال جنوبي الدولة، برئاسة الزبيدي ونائبه الشيخ السلفي الذي بات معروفًا للجميع “هاني بن بريك”، والذي أصبح يقود عسكريا ما يعرف بمليشيا “الحزام الأمني” المدعومة إماراتيا في الجنوب.[6]
كانت كلفة الرفض المتكرر من الشيخ العدني لـ “هاني بن بريك” غالية كما يبدو، كما كانت كلفة رفض الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي للمشروع الإماراتي في اليمن ورهانه على السعودية ضمن “التحالف”، إذ كلفته حريته كرئيس دولة، ليوقف مع الأمراء السعوديين الآخرين في حادثة الريتز كارلتون الشهيرة إثر إقالته للزبيدي من منصبه كمحافظ عدن[7]، وإقالته لهاني بن بريك من منصبه كوزير للدولة، كما كلفته مشروع دولته إثر قيادة الزبيدي للمشروع الانفصالي الذي أعلن عنه بعد أيام من إقالته[8]، كلفة راح على هامشها الكثير من الضحايا الجانبيين لتهيئة مناخ مناسب للمشروع الجديد، على يد المدير التنفيذي له ونائب الزبيدي في مجلسه الانتقالي، مجددا، هاني بن بريك.
في الحادي عشر من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي؛ وصلت قافلة الاغتيالات المجهولة لإمام مسجد الشيخ زايد، “ياسين الحوشبي العدني”، على شكل عبوة ناسفة مزقت سيارته. كان الشيخ الحوشبي، كما يبدو من اسم المسجد الذي يأمه، مقربا من الإمارات ومن ميليشيا “الحزام الأمني” ومن ابن بريك بالتبعية، ولعب دورا في استقطاب الشباب السلفيين للانخراط ضمن هذه القوات، كما تروي مصادر محلية. إلا أن هذا التقارب تحول مؤخرا لخلاف بين الشيخين السلفيين، دفع العدني لإرسال رسائل «مناصحة» لابن بريك يحذره بها من «الانحراف عن خط السلفية»، ضمن عدد آخر من المشايخ الذين كانوا مقربين كذلك من الحزام الأمني وقائده، معتبرين رفضه لإقالته من الوزارة «خروجا على الحاكم»[9]، وبنفس الطريقة، كانت كلفة هذا الرفض غالية.
لم يقف قطار الموت عند الشيوخ والشخصيات السلفية المخالفة للإمارات أو حتى التي كانت مقربة منها، والتي وصل عددها إلى ١٣ شخصية تم اغتيالها منذ عام ٢٠١٦ حتى الآن، بل تعدّاها ليصل للجمعيات والمنظمات وحتى المليشيات، والتي يعدّ من أبرزها جمعيتا “الإحسان” و”الحكمة” اللتان اعتقلت قوات “الحزام الأمني” عددا من قياداتهما، بعد أن وضعتهما الإمارات والسعودية على قائمة «المنظمات الإرهابية»، بجانب الحليف السلفي الأقوى السابق للإمارات الشيخ “عادل عبده فارع”، المكنى بـ “أبو العباس”، تمهيدا لصعود نائبه “عادل العزي”، السلفي الأكثر استجابة لتنفيذ أجهزة الإمارات في تعز.
لم يقف الأمر عند الاغتيالات وحسب، إذ سعت الحملة الممنهجة كما يبدو إلى تحييد المشايخ السلفيين بأي طريقة ممكنة بعد تجميد جمعياتهم، بطريقة تشابه تحييد أبو العباس وتسليم نائبه عادل فارع؛ فلم يمر على اغتيال الشيخ “صالح حليس” الوقت الكثير حتى تم الاستيلاء على منبره من قبل أتباع ابن بريك، كما جرى مع الشيخ “فهد” إمام وخطيب مسجد الصحابة، بحسب ما يروي الناشطون الذين يؤكدون أن «مكتب الأوقاف في عدن والذي يقوده محمد الوالي، المعين من ابن بريك، لم يصدر أي بيان يستنكر فيه قتل أئمة وخطباء المساجد، باعتبار الأوقاف جهة مشرفة على المساجد، بل يسارع الوالي لفرض أئمة وخطباء كبدلاء للأئمة القتلى». [10]
إضافة لذلك؛ تم تغيير ٢٤ خطيبا وإماما من خطباء المساجد في عدن، معظمهم من الجماعة السلفية، وتعيين بدلاء عنهم من مكتب الأوقاف بالتنسيق مع ابن بريك أيضًا، واعتقال عدد من رموز التيار السلفي، وعلى رأسهم الشيخ السلفي عبد الله اليزيدي والشيخ أحمد بن رعود، بما برره ابن بريك نفسه في تغريدات على حسابه بموقع التواصل الاجتماعي تويتر بـ «ضرورة أن يتم تجريد الجيش والداخلية والمساجد والقضاء من أي ولاء حزبي، فهي أساس استقرار المجتمع»، معتبراً أن «الجمعيات الخيرية، المزعومة سلفية في اليمن، استطاعت أن تفعل ما لم تفعله الجماعة الأم من نشر الفكر التكفيري، وتأهيل الانتحاريين».
اكتمل عقد من القرائن البارزة، تشير بوصلتها على الأرجح لتورط إماراتي باستخدام رجلها هاني بن بريك بكل هذه الفوضى، بانقلاب داخلي تمثل ببيان من مجموعة تسمي نفسها “أهل السنة والجماعة السلفيين”، تهاجم ابن بريك وتحمّله المسؤولية وتتهمه ضمنيا بعمليات الاغتيال، وبكشف معلومات من ملف اغتيال محافظ عدن السابق، اللواء جعفر سعد، تثبت تورط ضباط إماراتيين ومعهم ابن بريك في دفع مبالغ تصل إلى مئة ألف دولار، مقابل كل عملية اغتيال لشخصيات في “المقاومة الجنوبية” وفي الحركة السلفية التي هي على خلاف مع “الحزام الأمني” وأبو ظبي رأسًا