يُعتبر الكاتب المكسيكي خوان رولفو (1917-1986) واحدًا من أعمدة الأدب اللاتيني الحديث، لا سيما عبر روايته “بيدرو بارامو” وكتاب “السهل يحترق”. تُعتبر هذه الأعمال تجسيدًا للصراعات النفسية والوجودية، حيث تعكس تأثير الثورة المكسيكية على شخصياته. “بيدرو بارامو” تدعو القارئ إلى تجربة مغامرة مع الأشباح في بلدة كومالا، التي تمثل واقعًا مسكونًا بالخراب والذكريات المؤلمة. على الرغم من مقاربات رولفو السحرية، يبقى تأثيره عميقًا في الأدب العالمي والعربي، حيث يبرز مفاهيم الخذلان والمصائر المشتركة بين الثقافات.
ماذا يمكن أن يُقال عن الكاتب المكسيكي خوان رولفو (1917-1986) في ذكرى ميلاده، وقد مضى أكثر من قرن على هذا الحدث؟ هل لا زالت هناك ضرورة لتسليط الضوء على أثره في الأدب العالمي، أم أن مكانته أصبحت راسخة بما يكفي للانتقال إلى جانب آخر للتمعن؟
كلما استثمرنا في القراءة، يتبين لنا أن هناك نوعين من الكتب: كتب نطويها قبل الانتهاء من الصفحة الأخيرة، وأخرى نحتفظ بها في ذاكرتنا حتى بعد أن تجد طريقها إلى الرف. ولكن رواية “بيدرو بارامو”، لا تتبع أي من النوعين هنا.
إنها من تلك الأعمال الفريدة التي استنفدت كاتبها إلى درجة أنه التزم الصمت لمدة خمسة عشر عاماً قبل أن ينشر عملاً آخر لم يصل إلى شهرة روايته الأولى التي تتحدى التصنيف. وحتى بعد مرور ما يقرب من سبعين عامًا على صدورها، يمكننا أن نصفها بأنها، باختصار: رحلة في اتجاه واحد، تذكرة ذهاب دون عودة.

لا أنصحك بالذهاب إلى كومالا
رغم أن شهرة رولفو تعود إلى عملين فقط، “السهل يحترق” (1953) و”بيدرو بارامو” (1955)، يُعتبر أحد أعمدة الأدب اللاتيني الحديث، وأباً روحياً للرواية الجديدة في أميركا اللاتينية. وقد اعترف كتّاب مثل “غابرييل غارثيا ماركيز” و”كارلوس فوينتس” بأن “بيدرو بارامو” ألهمتهما في استكشاف التجريب السردي، بينما اعتبر بعضهم انتقال رولفو من الواقعية في “السهل يحترق” إلى السحرية في “بيدرو بارامو” تحوّلاً غير مفهوم. لكنها تُظهر تطور الصوت الفردي في قصص المجموعة إلى تناغم جماعي في الرواية، حيث تحولت الهموم الشخصية إلى هم مشترك، ليصهر الجميع في بوتقة واحدة تحت اسم كومالا.
يدعم هذا الزعم الاسم “بيدرو” المستمد من الجذر اللاتيني “Petrus” بمعنى “الصخرة”، و”بارامو” بمعنى “السهل القاحل”. هل ينبهنا رولفو إلى أن “بيدرو بارامو” هو السهل الذي احترق فعلاً؟ هل يُعد مجموعته القصصية كإنذار بكارثة قادمة؟ هل أراد أن يصرخ أولاً وهو في واقعيته، ثم انتقل للسحرية عندما تحولت الإغاثة إلى غير ممكن؟
يعكس عنوان المجموعة صراعًا أوليا، معركة ضد الزمن والاندثار. أما “بيدرو بارامو”، فتمثل المرحلة التالية بعد أن زحف الزمن، وأتت النيران على كل شيء، حتى تحولت كومالا تدريجياً إلى مدينة أشباح!

التجول في مدينة الأشباح
من الصعب على أي قارئ التكيف مع أجواء رولفو الواقعية، ناهيك عن كومالا؛ المدينة التي تشكل مسرح روايته الأولى. ولكن سيتمكن القارئ الشغوف من الاندماج، وما إن يصطدم برماد الأرض المحترقة، حتى يدرك أنه ليس بمقدوره العودة. أكثر ما يثير الرعب، أن محاولات هذا القارئ المتحمس للانتقال إلى قصة أخرى، غالبًا ما تبوء بالفشل، كأن لعنة كومالا قد تلازمته، ومن المؤكد أن تلك اللعنة ستظل تطارده، وهو عالق بين أرواح ساكنيها المنسيين الذين لم يجدوا مكاناً لهم في الحياة، ولم تقبلهم السماء بعد موتهم، مما أبقاهم عالقين بين الحياتين، يستغيثون بأي كائن حي دون وعد بالخلاص.
هل هذه هي سراسة رولفو الفريدة؟ هل هي قدرته على إنهاء حياة بطله واحتجاز قارئه داخل النص؟ أم أن السؤال الملح الذي يسأله كل من دخل كومالا طوعاً أو كرهاً: كيف يمكنني مغادرة هنا؟
يظهر جوهر كومالا كقرية ابتلعها الخراب في كل تفاصيلها، بدءًا بالطريق المنحدر نحو شوارعها المهجورة وبيوتها ذات الأبواب المشقوقة التي غزت عشبة الحاكمة. مرورا بالوصف المخيف الذي يرويه الشخصيات كما تقول داميانا خادمة بيدرو بارامو:
.. وفي أيام الهواء تأتي الريح ساحبًا معها أوراق الأشجار، وهنا كما ترى، لا توجد أشجار. لقد كانت الأشجار موجودة في زمن مضى، وإلا من أين تأتي هذه الأوراق؟
لقد سُجن الماضي هنا، متراكماً فوق بعضه ليفزع كل من يدخل إلى ساحتها، لكن الأكثر رعبا كما تتحدث داميانا:
هو عندما تسمع الناس يتحدثون، وكأن الأصوات تخرج من شق ما… والآن، بينما كنت آتية، مررت بجماعة تسير حول ميت. فتوقفت لأصلي “أبانا الذي في السماوات”. وكنت أفعل ذلك، عندما انفصلت امرأة عن الأخريات وأتت لتقول لي: داميانا! تضرعي إلى الله من أجلي يا داميانا! ونزعت خمارها فتعرفت على وجه أختي سيبينا.
– ما الذي تفعلينه هنا؟ – سألتها.
عندها هرعت لتختبئ بين النساء الأخريات.
وأختي سيبينا، إذا كنت لا تعرف، ماتت عندما كان عمري اثنتي عشرة سنة… وهكذا بإمكانك أن تحسب كم من الزمن مضى على موتها. وها هي الآن، ما زالت تهيم في هذه الدنيا. لذا لا تفزع إذا ما سمعت أصداء أحدث عهدا يا خوان بريثيادو.
(ترجمة صالح علماني)
لاحقًا، يتضح للقارئ أن داميانا نفسها، ماتت منذ زمن بعيد، وكذلك دونيا أدوفيخس أول امرأة استقبلته في بيتها. وهذا الطابع الشبحي يتعزز في حوار أخت دونيس التي تزوجها بعد أن فرغت القرية من أهلها وليس لديه خليلة سوى شقيقته:
“لو أنك ترى حشود الأرواح التي تهيم في الشوارع. عندما يخيم الظلام، تبدأ بالخروج. إنهم كثيرون، ونحن قليلون جدًا، حتى أننا لا نتكلف مشقة الصلاة من أجلهم لتخليصهم من آخرتهم، لأن صلواتنا لن تكفيهم جميعًا. ربما ينال لكل منهم جزءًا من ‘أبانا الذي في السماوات’، وهذا لن يفيدهم في شيء.”

الواقعية قبل أن تسحرنا
وُلد رولفو في 16 مايو/أيار 1917، ورحل في يناير/كانون الثاني 1986، ينتمي لجيل تأثر مباشرة بتبعات الثورة المكسيكية (1910–1920) والحرب الأهلية التي تلتها، جيل لم يكن أبناءً للثورة، بقدر ما كانوا ضحايا لخيبتها. ومن هنا نشأت لدى كتّاب تلك المرحلة رؤية مأساوية للواقع.
لقد فقد رولفو والده ثم والدته في طفولته، ونشأ مثل كثير من أبناء جيله في مؤسسات دينية أو شبه عسكرية. كانت المكسيك تشهد آنذاك عسكرة للمجتمع، وتحولا عنيفا في بنيتها الزراعية والدينية، وسط تحديات بيئية حادة، تحركت في عوالم رولفو الأدبية.
في قصته “لقد أعطونا الأرض”، تتجلى المفارقة بين خطاب الثورة وواقع الفلاحين الذين يُجبرون على الانتقال إلى أرض قاحلة. وبينما يحدثهم المسؤول الرسمي عن المساحة “الشاسعة” التي منحتها لهم السلطة التنفيذية، يتجاهل شكاويهم. قطعوا أميالاً عديدة حتى جفت حلوقهم، وهم يمضغون الرمال ويذروهم الرياح في صحراء بلا أمل.
هذه المفارقة تنقلنا إلى “بيدرو بارامو” حيث يظهر الاختلاف الطفيف في العنوان كإشارة لتكامل الرؤية. فالشخصيات التي لفحها الهجير تحولت إلى أشباح بين الحياة والموت، تتنقل بين الذاكرة والمكان، دون أن تجد مخرجًا من مصيرها المحتوم. وهكذا جاءت نصوص هذا الجيل محمّلة بتلك القسوة المزدوجة. إنه الجيل الذي مهد لطفرة “الواقعية السحرية”، إذ بجانب رولفو، نجد كتّابًا مثل خوسيه ريفالتا، أو حتى البدايات الأدبية لأوكتافيو باث، الذين سعوا لاستيعاب صدمة القومية والذاتيّة لما بعد الثورة.
ومع رحيل الكاتب البيروفي الكبير ماريو فارغاس يوسا، تتضح ملامح جيل أدبي فذ، استطاع تحويل التجربة اللاتينية — بما تحمله من ثورات فاشلة، وحكام دكتاتوريين، وشعوب ممزقة بين الأمل واللعنة — إلى سرديات إنسانية، خلدها الأدب العالمي.

لعنة الانتظار
في واحدة من أشهر حكايات ألف ليلة وليلة، يُروى أن صيادًا فقيرًا ألقى بشبكته في البحر أربع مرات، كعادته، في المرة الرابعة وقع على قمقم نحاسي مختوم بخاتم سليمان. وعندما فتحه، خرج منه دخان كثيف تشكل شيئًا فشيئًا حتى أصبح جنياً هائلاً يهدد بقتله. وحين سأله الصياد عن سبب هذا العقاب، قال الجني:
إني من الجن المارقين، غضب علي سليمان بن داود فحبسني في هذا القمقم ورماني في قعر البحر. ومكثت مئة عام أقول: من يطلقني أغنيه إلى الأبد. ثم مئة أخرى: من يطلقني أكشف له كنوز الأرض. ثم مئة ثالثة قلت فيها: من يطلقني أحقق له ثلاث أمنيات. فعندما طال انتظاري ولم يأت أحد، أقسمت أن أقتل من يخرجني ولا أحقق له شيئًا!
أهي لعنة الانتظار الطويل؟ الغضب المتراكم عبر الأعوام؟ تمامًا كما يحدث في كومالا، تلك البلدة التي تحولت إلى ذاكرة مغلقة على نفسها تحتضن ماضيها وتبتأس من حاضرها دون أمل في الخلاص. ربما لهذا تبتلع كل من يخطو إليها، كعقيدة الجني في الفتك بالصائد البائس، لا لذنبٍ ارتكبه، بل لأنه وصل بعد فوات الأوان. هكذا يعرف البطل بموت أبيه وهو في بداية رحلته من دليل الشبح الذي مات هو وحميره، ومع ذلك يواصل الرحلة المقدرة، فإذا به يصبح فريسة للأرواح التي انتظرت طويلًا من يخلصها… وإذا لم يأتِ أحد، قررت الانتقام من كل من البطل والقارئ على حد سواء.
لقد نجح رولفو في جعل “كومالا” مجازًا لكل البلدان التي خذلتها الوعود الكبرى. فالثورة المكسيكية، كغيرها من الثورات، بشرّت بالعدالة والمساواة، لكنها خلفت وراءها فراغًا موحشًا وأرواحًا تائهة. بذلك، فإن كومالا لا تمثل فقط المكسيك، بل تمتد ظلالها إلى أماكن كثيرة: إلى المدن السورية التي مُحيت من الخرائط، والريف المصري الذي غنّى للثورة ثم اختنق في فقره، وإلى شوارع اليمن المعلقة بين هدنة ومجاعة. تتغير الأسماء والخرائط، لكن كومالا تبقى، مشحونة بأصداء ساكنيها المنسيين.

الحكي ضد الخذلان
لم يكن أمام الكتّاب اللاتينيين سوى الحكي في مواجهة النسيان. فمعاناة الشخصيات المطحونة تحت وطأة الظلم الاجتماعي والسياسي تبرز في روايات ماركيز، وفوينتس، ورولفو، وهي صورة تتردد أصداؤها في الأدب العربي. لذلك ليس غريبًا أن يُدرك القارئ العربي في كومالا ملامح قريته المنسية، أو في أرواحها التائهة صدى لضحاياه، أو في أبطال رولفو تشابهًا مع أولئك الذين سكنوا روايات محمد شكري وجبرا إبراهيم جبرا، وعبد الرحمن منيف، ورضوى عاشور.
ورغم أن تأثير رولفو في الرواية العربية لم يُدرس بشكل كافٍ، فإن بصمته واضحة في بعض الأعمال المعروفة. قد يُعتبر الطريق لنجيب محفوظ، في بعض نواحيها، صدى لرواية بيدرو بارامو، خاصة في اللحظات المحورية: وصية الأم على فراش الموت بالبحث عن الأب الغائب، رمز السلطة والمال.
ينطلق كلا البطلين إلى مكان غير مألوف: كومالا في المكسيك، التي تحولت إلى بلدة الأشباح، وعالم صابر القاهري، الذي يبدو كمدينة بلا معنى ولا ذاكرة. تتكرر المفارقة المؤلمة: الأب الذي لا يمكن العثور عليه، والصورة التي يحملها الابن في جيبه تبقى بلا معنى. أما النهاية، ففي كلتا الروايتين، ينتهي الأمر بموت ينتظر البطل الذي دفعته أمه في رحلة مجهولة ليعيش حياة كريمة.
هذا التداخل بين موت الأم، وغموض الأب، والرحلة الفارغة، والنهاية المأساوية، ليس فقط يكشف عن تأثير خوان رولفو في الكاتب النوبلي، بل يُبرز أن الأدب اللاتيني، في أكثر لحظاته صدقًا، كان دائمًا الأقرب إلى الوجدان العربي؛ ليس فقط لتشابه المصائر، بل لأننا، كما قال رولفو، “نولد محكومين بالخذلان، لكننا نستمر في الحكي”.