تتجه مراكز البحث في الولايات المتحدة ودول غربية أخرى إلى دراسة استراتيجيات روسيا في مواجهة الهيمنة الغربية، خصوصًا بعد الحرب الأوكرانية. روسيا تعزز نفوذها في دول الاتحاد السوفياتي السابق، مستفيدة من منظمات إقليمية لتجاوز العقوبات. تُروج لدعم القيم التقليدية لمواجهة الليبرالية، وتوظف ممارسات التضليل لتعزيز تأثيرها السياسي. تُظهر روسيا شراكة قوية مع الصين، ومع ذلك، ترى أنها تحتاج إلى الأسواق الغربية. القطب الشمالي يعد نقطة استراتيجية حيوية. في النهاية، ليست روسيا أو الغرب الفائزين بل الصين، التي تستفيد من هذا المواجهة على حساب روسيا وأميركا وأوروبا الغربية.
تقوم مراكز الأبحاث في الولايات المتحدة وفي عدة دول غربية بدراسة نقاط القوة والضعف في روسيا، خاصة بعد أن كشفت الحرب الروسية الأوكرانية عن العديد من الثغرات على الجانبين الروسي والغربي.
لقد تمكنت روسيا من مواجهة العقوبات الغربية بشكل يتجاوز توقعات الغرب نفسه، في الوقت الذي تسعى فيه روسيا للتوسع في إفريقيا، مما يطرح تساؤلات حول ما إذا كان لدى روسيا استراتيجيات لمواجهة الهيمنة الغربية والأميركية على العالم وتجاوز تأثير هذه الهيمنة على مصالحها.
للولوج في هذا الموضوع، من الضروري فهم الرؤية الاستراتيجية الروسية لذاتها كقوة عظمى فريدة على الساحة الدولية، مدعومة بأساطير وطنية ترتبط بالتراث الأرثوذكسي، استنادًا إلى سردية تاريخية تتحدث عن جذور قوة روسيا العظمى منذ عصور بعيدة، مما يجعلها تشعر بالجرح نتيجة الإهانات التي تعرضت لها من قبل الولايات المتحدة وأوروبا الغربية، وهو ما أثر على شعورها بالأمان عندما يتعلق الأمر بجغرافيتها.
مع الحرب الأوكرانية، تمهد روسيا لظهور عالم متعدد الأقطاب، لذا فهي تتبنى سياسات تهدف إلى تقويض الهيمنة الغربية، حيث حققت بعض هذه السياسات نجاحًا بينما أخفق البعض الآخر، لذا أقدمت روسيا على مجموعة من السياسات التي تركز على:
على مدار السنوات الماضية، سعت روسيا للحفاظ على هيمنتها على دول الاتحاد السوفياتي السابق، معتبرة إياها المجال الحيوي الذي ترتبط فيه بجاليات روسية تدعم نفوذها. قامت روسيا بتأسيس منظمات إقليمية تربط هذه الدول أمنيًا واقتصاديًا، مما ساعدها في مواجهة العقوبات الغربية.
تعتبر دول الاتحاد الماليةي الأوراسي بمثابة بوابة متقدمة لتقويض هذه العقوبات، لذلك نرى تركيزًا روسيًا على منظمة شنغهاي ومجموعة البريكس، بهدف إنهاء الهيمنة الغربية على المالية العالمي والفكاك من سيطرة الدولار.
يعتقد العديد من الخبراء الروس أن إمكانية تقويض الهيمنة الأميركية تأتي من الأخطاء التي ارتكبها الغرب، كما هو الحال في الحرب الأمريكية في أفغانستان، وفي غزة، مما أدى إلى انعدام الاستقرار والاستقرار العالمي، وهذا ما عزز الدعوة لإنشاء نظام عالمي جديد يعبر عن مرحلة ما بعد الغرب.
في التدخل المباشر لدعم حلفائها سياسيًا، مثلما حدث في الاستحقاق الديمقراطي الرومانية الأخيرة، تعزز روسيا من الاستراتيجيات المناهضة للديمقراطية والقيم الليبرالية، حيث تدعم النخب السياسية والأحزاب الرافضة للناتو والاتحاد الأوروبي، في مساعٍ لزيادة الاستقطاب السياسي والحركات الانفصالية في الدول الغربية من خلال الحملات التضليلية.
هذا الأمر جعل النخب الروسية تعلن صراحةً أن الولايات المتحدة في حالة تراجع كقوة مهيمنة، وأن النظام الحاكم الدولي في حالة من التغيير العميق. لذا يتم النظر إلى الغرب ككتلة مجزأة، وهو ما أثبته ترامب عندما جعل مصالح الولايات المتحدة في المقدمة حتى لو كانت على حساب حلفاء تقليديين مثل أوروبا الغربية واليابان، ما أدخل صناعة السيارات في ألمانيا واليابان في تحديات جدية. رغم التنسيق المسبق لتوسيع عضوية الناتو لتشمل السويد وفنلندا بسبب الحرب الأوكرانية، لا يزال الغرب منقسمًا حول هذه القضية.
يرى الروس أن أجندة نشر الديمقراطية والليبرالية الأميركية لطالما كانت غطاء لتغييرات جذرية في عدة دول، حيث أن الثورات الملونة في جورجيا (2003) وأوكرانيا (2004) وقرغيزستان (2005) كانت مدعومة من شخصيات تحركها قوى غربية، وليست نتاجًا لسخط شعبي حقيقي. بل جاءت هذه الدعم عبر منظمات غير حكومية ومصادر تمويل إقليمية، مثلما حدث في ليبيا التي أوجد التدخل الغربي بها حالة فوضى وعدم استقرار.
جادل بوتين في عام 2019 بأن الأفكار الليبرالية أصبحت “عفا عليها الزمن”، وأن القيم التقليدية هي الأكثر استقرارًا وأهمية كمعيار عالمي ينافس الليبرالية، لذا تركز روسيا على دور الأُسرة والدين، وهذا الأمر يبدو جذابًا لحركات اليمين والمحافظين في أوروبا.
تدعم الولايات المتحدة بعض الأنظمة الدكتاتورية، مما يعتبره الروس نفاقًا واضحًا لتحسين صورة هذه الأنظمة. يتضح ذلك عند استخدام الولايات المتحدة لقواعد وقوانين دولية بشكل انتقائي، حيث انتقدت روسيا الغرب وأميركا لتقدميهما اعترافًا بكوسوفو كدولة مستقلة، معتبرين ذلك مثالًا على عدم التزام أميركا بالقانون الدولي، مما أتاح لروسيا تبرير اعترافها باستقلال أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية.
علاوة على ذلك، كان رفض روسيا التدخل لصالح أرمينيا في حرب أذربيجان لاستعادة إقليم ناغورني قره باغ بمثابة تقويض لمنظمة الاستقرار والدفاع الجماعي التي أنشأتها، مما أدى إلى فقدان أرمينيا ضمانات الاستقرار الروسية، مما أثر على توجه الرأي السنة الأرميني تجاه روسيا.
على الجانب الآخر، دعمت روسيا حليفها قاسم جومارت توكاييف رئيس كازاخستان خلال التمرد الذي واجهه، مما يعزز من موقف روسيا كحليف موثوق لدى دول آسيا الوسطى. ومع ذلك، فإن فشل روسيا في تسويق لقاح سبوتنيك خلال جائحة كورونا أظهر محدودية قدراتها الإنتاجية والتسويقية، مما سمح للصين والغرب بالتفوق عليها.
من جهة أخرى، تستفيد روسيا من استخدام حرب المعلومات بمهارة لتعزيز التضليل محليًا وإقليميًا ودوليًا من خلال أنظمة معقدة، كما اتضح من تدخلها في العديد من الاستحقاقات الانتخابية الغربية لدعم حلفائها، وهو ما اعتبرته روسيا أداة لتقويض القوة الناعمة الأميركية.
تعتمد الإستراتيجية الروسية على التعاون مع الصين لمواجهة الولايات المتحدة، حتى أن القائد الصيني لفت إلى أن التعاون بينهما هو “شراكة بلا حدود”. رغم ذلك، تدرك روسيا أن الصين لن تحل محل القطاع التجاري الغربية، خاصة في مجالات الغاز والنفط. في الحقيقة، المستفيد الأكبر من المواجهة الروسي الغربي هو الصين، التي تمكنت من التوسع في التحالفات عبر آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية في ظل انشغال الغرب بمواجهة روسيا.
ولكن هناك جانب غير مرئي من المنافسة الأميركية الروسية وهو السيطرة على القطب الشمالي، وهو ما يفسر اهتمام ترامب المتزايد بغرينلاند. وضعت روسيا استراتيجيات لتعزيز استعداداتها القتالية في القطب الشمالي، حيث بنيت قاعدة تريفل العسكرية.
وفي سياق آخر، احتاجت روسيا إلى سياسات واقعية ووقعت اتفاقية مع النرويج في عام 2010 أنهت نزاعًا حدوديًا دام 40 عامًا، من خلال تحديد النطاق الجغرافي في بحر بارنتس، مما يناقض التصورات المتعلقة بعدائية روسيا تجاه جيرانها، بالإضافة إلى ذلك، تسعى روسيا للترويج لطريق الحرير القطبي عبر القطب الشمالي، مما سيقلل من تكلفة نقل السلع الصينية إلى أوروبا.
يعتبر القطب الشمالي مصدر جذب للروس ليس فقط بالثروات الطبيعية، حيث يحتوي على حوالي 30% من احتياطات الغاز غير المكتشفة في العالم، ولكن أيضًا يعد نقطة انطلاق لتوسيع نفوذ روسيا، والتي تمتلك نصف ساحل القطب الشمالي، مما يجعل الولايات المتحدة، التي تمتلك ألاسكا، تسعى للتموضع استراتيجياً في القطب.
إن جميع الأمور السابقة تلخص كيف تسعى روسيا لتقويض الهيمنة الأميركية والغربية على العالم، حيث تعمل على تعزيز عمقها الاستراتيجي لضمان بقائها، وتسعى لتحجيم دور الناتو، وزعزعة استقرار الغرب من الداخل، وتقويض نفوذ الغرب في أفريقيا من خلال تقليص نفوذ فرنسا، وبناء تحالفات راسخة مع الصين، وطرح سردية قائمة على القيم التقليدية لمواجهة تصاعد الفردانية والحرية المطلقة في الغرب، مع التأكيد على أن مجالها الحيوي غير قاب قيد الاختراق.
وفي الختام، يؤكد ذلك على وجود عالم متعدد الأقطاب تقوده تحالفات ومنظمات تعزز من موقفها، وهو ما سياسية لا تصب في مصلحة روسيا أو أميركا وأوروبا الغربية، بل تعتبر الصين الرابح الأكبر من هذا المواجهة الذي مكنها من توسيع نطاق تعاونها عبر آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.