الاقتصاد العالمي | شاشوف
في خطوة تعكس التحولات العميقة في المشهد الاقتصادي العالمي، انطلقت في موسكو اليوم الخميس، اجتماعات ثنائية رفيعة المستوى بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونظيره الصيني تشي جين بينغ.
وشدد الزعيمان على متانة التحالف الاستراتيجي بين بلديهما، في وقت يسعيان فيه إلى إعادة تشكيل النظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة منذ عقود، مؤكدين على تطوير العلاقات بما يخدم مصالح شعبيهما “دون استهداف أي أطراف”، بحسب تعبير الرئيس بوتين الذي وصف الشراكة بأنها “مكتملة الأركان وذات مصالح استراتيجية”.
وتأتي زيارة الرئيس تشي، التي بدأت أمس الأربعاء وتستمر لأربعة أيام، في خضم احتفالات روسيا بالذكرى الثمانين لنهاية الحرب العالمية الثانية، وهو حدث من المتوقع أن يشهد حضور قادة أكثر من عشرين دولة، من بينهم الرئيس البرازيلي “لويس إيناسيو لولا دا سيلفا”.
وأشار بوتين إلى أن القوات الصينية المشاركة في العرض العسكري المقرر في الساحة الحمراء يوم التاسع من مايو ستشكل أكبر تمثيل عسكري أجنبي، في دلالة رمزية على عمق العلاقات، من جانبه، أكد الرئيس شي أن الصين “ستدافع بحزم” عن مصالحها ومصالح الدول النامية، في إشارة إلى تكتل القوى الساعية لنظام عالمي أكثر توازناً.
إعادة رسم خارطة التحالفات الاقتصادية
يمثل هذا اللقاء الأول بين الزعيمين وجهاً لوجه منذ أن أطلقت الإدارة الأمريكية بقيادة “دونالد ترامب” حربها التجارية، والتي لم تضعف فقط العلاقات مع حلفاء واشنطن التقليديين من أوروبا إلى اليابان، بل دفعت أيضاً بالصين وروسيا إلى مزيد من التقارب.
وقد ساهمت السياسات الحمائية الأمريكية والانسحاب من بعض المؤسسات العالمية في تسريع مهمة الصين نحو بناء نظام عالمي متعدد الأقطاب، وهي مهمة وجدت فيها روسيا شريكاً طبيعياً، لا سيما بعد الغزو الروسي لأوكرانيا في فبراير 2022، وما تلاه من عقوبات غربية غير مسبوقة.
وقدّمت الصين شريان حياة اقتصادي ودبلوماسي حاسم لموسكو في أعقاب هذه العقوبات، تجسيداً لإعلان “الصداقة بلا حدود” الذي أطلقه الزعيمان قبيل اندلاع الأزمة الأوكرانية.
ووفقاً لمساعد السياسة الخارجية في الكرملين، “يوري أوشاكوف”، فإن المحادثات بين الزعيمين تتناول ملفات حيوية تشمل تطورات الحرب في أوكرانيا، والعلاقات الروسية-الأمريكية، إضافة إلى تعزيز التعاون ضمن أطر مؤثرة مثل مجموعة “بريكس” ومجموعة العشرين، مما يعكس طموح البلدين لتنسيق مواقفهما على الساحة الدولية.
الطاقة والتجارة الثنائية المتنامية
تتصدر القضايا الاقتصادية والطاقة جدول أعمال القمة، ويبرز من بينها مشروع خط أنابيب الغاز الاستراتيجي “قوة سيبيريا 2″، الذي تسعى روسيا جاهدة للحصول على موافقة الصين النهائية عليه ليمر عبر منغوليا.
ورغم حاجة روسيا الماسة لتأمين هذا المنفذ لصادراتها من الغاز، تبدي بكين حذراً محسوباً، مشيرة إلى عدم حاجتها الملحة حالياً للوقود وحرصها على تنويع مصادر إمداداتها بدلاً من الاعتماد على مورد واحد، وهو ما يعكس بوضوح الموقع التفاوضي الأقوى للصين في هذه المعادلة.
وعلى صعيد التبادل التجاري، دفعت العقوبات الغربية موسكو إلى تعميق علاقاتها التجارية بشكل كبير مع بكين، حيث أظهرت بيانات الجمارك الصينية أن حجم التجارة الثنائية سجل رقماً قياسياً جديداً بلغ 245 مليار دولار في عام 2024، بزيادة مذهلة قدرها 68% مقارنة بعام 2021.
هذا النمو الهائل لا يعكس فقط إعادة توجيه روسيا لدفة تجارتها نحو الشرق، بل يؤكد أيضاً القدرة الاستيعابية الهائلة للسوق الصينية ودورها كقاطرة اقتصادية عالمية.
الصين كقوة اقتصادية مهيمنة: تحول في موازين القوى
إن التعاون الروسي الصيني المتنامي ليس مجرد تحالف تكتيكي، بل هو مؤشر على تحول أعمق في موازين القوى الاقتصادية العالمية، حيث تبرز الصين كقوة اقتصادية مهيمنة تتفوق بشكل متزايد على الولايات المتحدة في العديد من المؤشرات الحيوية.
ففي حين تواجه الاقتصادات الغربية التقليدية تحديات مثل الديون المتراكمة والضغوط التضخمية وتراجع القاعدة الصناعية، تواصل الصين تحقيق معدلات نمو قوية، معززة بمكانتها كـ”مصنع العالم”، وريادتها في قطاعات التكنولوجيا المتقدمة مثل شبكات الجيل الخامس، والذكاء الاصطناعي، وصناعة السيارات الكهربائية.
وتتجاوز الهيمنة الصينية حدود الأرقام التجارية والناتج المحلي الإجمالي؛ إذ تعمل بكين بنشاط على إعادة تشكيل البنية التحتية المالية العالمية. ويعد التوجه نحو تعزيز التجارة بالعملات الوطنية بين روسيا والصين، وتقليل الاعتماد على الدولار الأمريكي في التسويات الدولية، جزءاً لا يتجزأ من استراتيجية أوسع لتقويض هيمنة الدولار.
مبادرات صينية ضخمة مثل “الحزام والطريق” تقدم نموذجاً تنموياً وتجارياً بديلاً يجذب العديد من الدول النامية، مما يرسم ملامح نظام اقتصادي عالمي جديد أقل أحادية وأكثر تمثيلاً للقوى الصاعدة.
نحو نظام اقتصادي عالمي متعدد الأقطاب
إن تعميق الشراكة الاقتصادية بين بكين وموسكو لا يقتصر تأثيره على البلدين، بل يمتد ليطال سلاسل التوريد العالمية، وأسواق السلع الأساسية، والهيكل العام للتفاعلات الاقتصادية الدولية.
وفيما يؤكد الزعيمان أن تحالفهما ليس موجهاً ضد أي طرف، فإن مجرد وجود هذا التكتل الاقتصادي المتنامي وقوته المتصاعدة يمثل تحدياً واضحاً للنظام الذي تقوده الولايات المتحدة، ويقدم بديلاً جذاباً للدول التي تسعى إلى قدر أكبر من الاستقلالية في قراراتها الاقتصادية والسياسية.
ويُنظر إلى هذا التقارب الاستراتيجي كعملية إعادة اصطفاف طويلة الأمد، تهدف من خلالها كل من الصين وروسيا إلى تعزيز نفوذهما وتأمين مصالحهما في مواجهة ما تعتبرانه محاولات غربية لفرض رؤية أحادية على العالم.
وبالتالي، فإن مخرجات قمة موسكو الحالية ستكون لها، بلا شك، تداعيات بعيدة المدى على مستقبل النظام الاقتصادي والسياسي العالمي، معززة الاتجاه نحو عالم متعدد الأقطاب تلعب فيه القوى الآسيوية، وعلى رأسها الصين، دوراً محورياً متزايد القوة.
تم نسخ الرابط