حق الرعي
أ.د/ عبدالمؤمن شجاع الدين
الأستاذ بكلية الشريعة والقانون – جامعة صنعاء
– حق الرعي من حقوق الانتفاع، فلا يجوز لأحد منع هذا الحق الذي ينبغي أن يتم استعماله وفقاً للأعراف السائدة المتوارثة في المنطقة جيلٍا بعد جيل حسبما قضى الحكم الصادر عن الدائرة المدنية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 9-4-2013م في الطعن رقم (47106)، الذي ورد ضمن أسبابه: ((وحيث أن الحكم الاستئنافي المطعون فيه قد جاء موافقاً من حيث النتيجة للشرع والقانون لما علل به واستند إليه بقضائه بتأييد وإلغاء وتعديل منطوق الحكم على النحو الثابت في منطوق الحكم الاستئنافي الذي قرر حق الانتفاع بالرعي في موضوع النزاع بحسب ما كان عليه اسلافهم في المنطقة وبحسب ما ورد في تقرير الخبير العدل، اما بشأن نعي الطاعن بأن الهيئة العامة للأراضي لم تمثل في القضية، فقد وجدت الدائرة: أن الهيئة قد تم تمثيلها تمثيلاً صحيحاً أمام محكمتي الموضوع))، وسيكون تعليقنا على هذا الحكم حسبما هو مبين في الأوجه الأتية :
– الوجه الأول: الوضعية القانونية للمراعي:
يتم الرعي في اليمن في الأراضي المفتوحة الخالية من البناء غير الزراعية التي لم يتعلق بها حق أو يد لأي من الأفراد وإلتي هي عبارة عن مراعي ينتفع بها ملاك الحيوانات أو الماشية كالاغنام الأبقار والابل وغيرها، إذ ينتفع بهذه المراعي عموم الأفراد في القرى والمحلات المجاورة لها على وجه الاشتراك
والمراعي والمحاطب وحمى القرى والمحلات التي لم يتعلق بها حق ملكية أو إختصاص لأي من الأفراد تعد من المراهق العامة أو الأملاك العامة التي يحق لعموم الأفراد الإنتفاع المشترك بها، فلا يجوز لأحد من الأفراد أن يختص بالإنتفاع بها وحده أو يمنع غيره من الإنتفاع بها، إذ ينطبق على المراعي والمحاطب تعريف المراهق العامة المذكور في المادة (2) من قانون أراضي وعقارات الدولة الذي صرح أن المراهق العامة هي (الجبال والاكام والمنحدرات التي تتلقى مياه الأمطار وتصريفها، ويعتبر في حكم المراهق العامة السوائل العظمى)، فالأعشاب والأشجار التي ترعى منها الماشية ويتم الإحتطاب منها تنمو هذه الأشجار والأعشاب في الجبال والاكام والمنحدرات والسوائل العظمى، وقد أكدت على هذا المفهوم المادة (6) من قانون أراضي وعقارات الدولة التي نصت على أنه (يعد من أراضي وعقارات الدولة الخاضعة لأحكام هذا القانون ما يلي: -أ- الأراضي والعقارات التي تكون رقبة الملك فيها عائده للدولة -ب- الأراضي والعقارات التي يثبت أنها مملوكة للدولة بأي سبب من أسباب التملك بموجب وثائق ومستندات وأدلة شرعية -ج- الأراضي والعقارات التي تشتريها الدولة او تستملكها للمنفعة العامة أو تؤول إلى الخزينة العامة استيفاءً لديون مستحقة لها بموجب أحكام شرعية نهائية -د- الأراضي البور والأحراش والغابات مالم يتعلق بها ملك ثابت لأحد -هـ- الأراضي الصحراوية مالم يتعلق بها ملك ثابت لأحد -و- المراهق العامة -ز- الشواطئ ومحارمها والجزر وأشباه الجزر البحرية غير الآهلة بالسكان وسائر المناطق البحرية التي يجف ماؤها وتصبح يابسة وذلك وفقاً لأحكام هذا القانون -ح- الأراضي والعقارات التي لا يعرف مالكها أو لا وارث لها طبقاً لقواعد وأحكام الشريعة -ط- أية أراضي أو عقارات أخرى تعد وفقاً لأحكام القوانين النافذة أنها ملك للدولة)، وعلى أساس ما ورد في هذه المادة فأنه يحق للأفراد الرعي والإحتطاب من الأراضي المذكورة في هذه المادة بإعتبارها من الأملاك العامة التي تديرها الهيئة العامة للأراضي فيحق لعموم الناس الإنتفاع المشترك بها .
– الوجه الثاني: حق عموم الأفراد بالإنتفاع المشترك في الرعي بالمراعي من غير إختصاص:
من خصائص الملكية العامة أو الأملاك العامة المخصصة للمنفعة العامة أنه يحق للأفراد الإنتفاع المشترك دون أن ينفرد أحد الأفراد بالإنتفاع بها ومنع غيره من الإنتفاع بها، وهذا الأمر ينطبق على المحاطب والمراعي لأنها مخصصة بطبيعتها للمنفعة العامة حسب التعريف الوارد في المادة (5) من قانون أراضي وعقارات الدولة التي نصت على أنه (-أ- تتكون أراضي وعقارات الدولة من أملاك الدولة العامة وأملاك الدولة الخاصة ويعتبر من الأملاك العامة كل ما هو مخصص بطبيعته أو تم تخصيصه للمنفعة العامة بعد تعويض من له ملك خاص فيها تعويضاً عادلاً وفقاً لقانون الإستملاك للمنفعة العامة -ب- لا يجوز التصرف في أملاك الدولة العامة بأي نوع من أنواع التصرفات إلا إذا زالت عنها صفة المنفعة العامة بمقتضى قانون خاص أو قرار من مجلس الوزراء أو زالت عنها صفة المنفعة العامة بالفعل)، ومن خلال إستقراء هذا النص يظهر أنه ينطبق على المراعي والمحاطب لأنها مخصصة بطبيعتها منذ أن خلقها الله تعالى للرعي والإحتطاب فيها من قبل عموم الأفراد، وقد أكدت على هذا الأمر المادة (44) من قانون أراضي وعقارات الدولة التي نصت على أنه (يظل الحق في الإنتفاع بالمراهق العامة أو القدر المستحق منه للدولة مقرراً للكافة سواءً بالرعي أو بالإحتطاب أو غيره، ولا يجوز للدولة الإخلال بهذه الحقوق إلا لإعتبارات تتعلق بالمصلحة العامة).
– الوجه الثالث: وجوب إدخال الهيئة العامة للأراضي عند النزاع بشأن المراعي:
يفهم من الحكم محل تعليقنا بأنه يجب على محكمة الموضوع أن تقوم بإدخال الهيئة العامة للأراضي في أي نزاع يحدث بشأن المراعي، لأن المادة (190) مرافعات قد نصت على أنه (على المحكمة ان تدخل في الخصومة من يلزم إدخاله لمصلحة العدالة أو لإظهار الحقيقة ومن ذلك: -4- من يحتمل أن يلحق به ضرر من قيام الخصومة أو من الحكم فيها إذا ظهرت للمحكمة دلائل جدية على التواطؤ والغش أو التقصير من جانب الخصوم)، ففي حالات كثيرة يتواطأ الخصوم في نزاعهم لتملك الأملاك العامة، فيهدف الخصوم من رفع النزاع أمام المحكمة الحصول على حكم يثبت ملكيتهم للأملاك العامة لعدم وجود وثائق ملكية للخصوم، وقد اشار الحكم محل تعليقنا إلى أن الهيئة العامة للأراضي هي صاحبة الصفة والمصلحة عندما يختلف الخصوم بشأن المراعي والمحاطب، وفي هذا المعنى نصت المادة (10) من قانون أراضي وعقارات الدولة على أن (أ- تكون هيئة الأراضي هي جهاز الدولة المسئول عن إدارة وإستغلال أراضي وعقارات الدولة والتصرف فيها وفقاً لما تقرره الدولة من خطط وبرامج…إلخ).
الوجه الرابع: الحمى في الفقه الإسلامي وعلاقته بالحق في الرعي:
الحمى في الفقه الإسلامي هو ان يقوم ولي أمر المسلمين بتخصيص مساحة من الأرض لمنفعة عامة كمرعى لخيل الجهاد أو الحيوانات المتحصلة من الزكاة أو الضوال من الإبل، حيث يكون الحمى خاص برعي هذه الحيوانات التي حمي الإمام لأجلها، وقد اشترط الفقهاء في الحمى ان لا يترتب عليه التضييق على أهل القرى والبلدات في مراعيهم ومحاطبهم ، وفي هذا المعنى قال البهوتي : (وللإمام دون غيره حمى مرعىً لدواب المسلمين التي يقوم بحفظها كخيل الجهاد والصدقة ما لم يضرهم بالتضييق عليهم) ، وقد شرح هذه العبارة ابن قدامة في المغني بقوله (فصل: في الحِمى، ومعناه: أن يحمي أرضًا من الموات يمنع الناس رعي ما فيها من الكلأ ليختص بها دونهم، وكانت العرب في الجاهلية تعرف ذلك، فكان منهم من إذا انتجع بلدًا أوفى بكلبٍ على نَشْزٍ ثم استعواه، ووقف له من كل ناحية من يسمع صوته بالعُواء، فحيثما انتهى صوته حماه من كل ناحية لنفسه ويرعى مع العامة فيما سواه، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه لما فيه من التضييق على الناس ومنعهم من الانتفاع بشيءٍ لهم فيه حق، وروى الصعب بن جثَّامة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (لا حِمَى إلا لله ولرسوله)، رواه أبو داود وقال: (الناس شركاء في ثلاث: في الماء والنار والكلاء، رواه الخلال، وليس لأحدٍ من الناس سوى الأئمة أن يحمي؛ لما ذكرنا من الخبر، والمعنى، فأما النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقد كان له أن يحمي لنفسه وللمسلمين؛ لقوله في الخبر: (لا حِمى إلا لله ورسوله، لكنه لم يحم لنفسه شيئًا، وإنما حمى للمسلمين، فقد روى ابن عمر قال: حَمَى النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم النقيعَ لخيل المسلمين، رواه أبو عبيد، وأما سائر أئمة المسلمين فليس لهم أن يحموا لأنفسهم شيئًا، ولكن لهم أن يحموا مواضع؛ لترعى فيها خيل المجاهدين ومواشي الجِزية وإبل الصدقة وضوالُّ الناس التي يقوم الإمام بحفظها وماشية الضعيف من الناس على وجه لا يستضر به من سواه من الناس، وبهذا قال أبو حنيفة ومالك والشافعي في صحيح قوليه، وقال في الآخر ليس لغير النبي صلى الله عليه وسلم أن يحمي؛ لقوله: (لا حمى إلا لله ولرسوله)، والمختار أنه يجوز لولاة المسلمين ان يحموا، لان عمرا وعثمان حميا، واشتهر ذلك في الصحابة، فلم يُنْكَرْ عليهما فكان إجماعًا، فقد روى أبو عبيد بإسناده عن عامر بن عبدالله بن الزبير: أحسبه عن أبيه، قال: أتى أعرابيٌّ عمرَ، فقال: يا أمير المؤمنين، بلادنا قاتلنا عليها في الجاهلية، وأسلمنا عليها في الإسلام، علام تحميها؟! فأطرق عمرُ وجعل ينفخ ويفتل شاربه، وكان إذا كربه أمر فتل شاربه ونفخ، فلما رأى الأعرابي ما به جعل يُردِّدُ ذلك، فقال عمر: المال مال الله، والعباد عباد الله، والله لولا ما أحمل عليه في سبيل الله ما حميت شبرًا من الأرض في شبر، وقال مالك: بلغني أنه كان يحمل في كل عام على أربعين ألفًا من الظهر، وعن أسلم قال: سمعت عمر يقول لِهُنيٍّ حين استعمله على حِمى الربذة: يا هُني، اضمُم جناحك عن الناس، واتَّقِ دعوة المظلوم؛ فإنها مجابة، وأدخل رب الصريمة والغنيمة، ودعني من نَعَمِ ابن عوف ونعم ابن عفان؛ فإنهما إن هلكت ماشيتهما رجعا إلى نخل وزرع، وإن هذا المسكين إن هلكت ماشيته جاء يصرخ: يا أمير المؤمنين، فالكلأ أهون عليَّ أم غرم الذهب والورق؟ إنها أرضهم قاتلوا عليها في الجاهلية وأسلموا عليها في الإسلام، وإنهم ليرون أنا نظلمهم، ولولا النَّعَم التي يُحَمل عليها في سبيل الله ما حميتُ على الناس من بلادهم شيئًا أبدًا، وهذا إجماع منهم، ولأن ما كان لمصالح المسلمين قامت الأئمة فيه مقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (ما أطعم الله لنبي طعمة إلا جعلها طعمة لمن بعده)، أما الخبر فمخصوص، وأما حِمَاهُ لنفسه فيفارق حمى النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه؛ لأن صلاحه يعود إلى صلاح المسلمين، وماله كان يرده في المسلمين، ففارق الأئمة في ذلك وسَاوَوْهُ فيما كان صلاحًا للمسلمين، وليس لهم أن يحموا إلا قدرًا لا يُضَيِّقُ به على المسلمين ويَضُّر بهم؛ لأنه إنما جاز لما فيه من المصلحة لما يحمى، وليس من المصلحة إدخال الضرر على أكثر الناس.
اما ما حَمَاهُ النبي صلى الله عليه وآله وسلم فليس لأحد نقضه ولا تغييره مع بقاء الحاجة إليه، ومن أحيا منه شيئًا لم يملكه، وإن زالت الحاجة إليه ففيه وجهان، وما حماه غيره من الأئمة فغيَّره هو أو غيره من الأئمة جاز، وإن أحياه إنسان ملكه في أحد الوجهين، لأن حمى الأئمة اجتهاد وملك الأرض بالإحياء نَصٌّ، والنص يُقَدَّمُ على الاجتهاد، والوجه الآخر لا يملكه؛ لأن اجتهاد الإمام لا يجوز نقضه، كما لا يجوز نقض حكمه، ومذهب الشافعي في هذا على نحو ما قلنا، (اتخاذ الحمى لرعي الدواب- المرتع المشبع في مواضع من الروض المربع، فيصل آل مبارك، ص3).
الوجه الخامس: يتم إستعمال حق الرعي وفقا لأحكام العرف:
قضى الحكم محل تعليقنا بأن حق الرعي يتم استعماله وفقاً للأعراف السائدة المتوارثة في المنطقة، لأن اي حق لابد أن تكون له حدود يقف عندها، وضوابط وشروط يلتزم بها ، والعرف المحلي السائد في المنطقة يقرر ضوابط وشروط لاستعمال الأفراد حق الرعي ومن ذلك عدم قلع الأشجار ومنع الرعي الجائر والاحتطاب الجائر الذي يحول دون نمو الأعشاب والأشجار مرة أخرى، وتحديد اوقات الاحتطاب والرعي، وغير ذلك من الضوابط التي التي يقررها العرف لضمان إستعمال حق الرعي دون اضرار ببقية الأفراد.
والعرف معتبر في الشرع والقانون، فالعرف معتبر في الشريعة الإسلامية إذا لم يخالف النصوص الشرعية، وينبغي العمل بموجبه، وعلى هذا الأساس فقد أوجب القانون المدني العمل والحكم بموجب الأعراف التي لا تخالف الشريعة الإسلامية، ومن ذلك الأعراف الجارية بين الناس في المناطق المختلفة التي تنظم حق الرعي، وفي هذا المعنى نصت المادة (1) من القانون المدني على أنه (فإذا لم يوجد حكم القاضي بمقتضى العرف الجائز شرعاً)، فهذا النص يشمل العادات الجارية في المناطق المختلفة بشأن تنظيم حق الرعي ، كما صرح القانون المدني على وجوب إحترام عادات واعراف الناس التي لا تخالف الشرع والقانون، وفي هذا المعنى نصت المادة (12) مدني على أن (الأصل في المعاملات وانواعها وكيفيتها ما اقره الشرع ثم ما جرى به عرف الناس وتراضوا عليه مالم يخالف حكم الشرع من تحليل حرام أو تحريم حلال)، والله اعلم.
المصدر: أ.اكرم محمد الردماني