في عمق الريف الأفغاني تنبثق قصة نحل وصمود، حيث يُعتبر العسل “الذهب الحلو” لمكانته كمصدر رزق. رغم الأزمات السياسية والماليةية، شهدت تربية النحل انتعاشاً بفضل الطلب المتزايد على العسل الطبيعي. يتوقع إنتاجه أن يرتفع إلى 2860 طناً في 2024. تمثل هرات وبلخ وننغرهار وبدخشان ولايات رئيسية في هذا الانتعاش، حيث يقود شباب وفتيات مبادرات تدريبية لتحسين الإنتاج. بعد حظر الأفيون، تُعَد تربية النحل بديلاً اقتصادياً واعداً. السلطة التنفيذية تخطط لتحسين البنية التحتية لإنتاج العسل وزيادة التصدير، مما يعكس قدرة المواطنونات المحلية على مواجهة التحديات.
كابل- في عمق الريف الأفغاني، حيث تنتشر وديان هرات وحقول زعفرانها، وتزدهر الحياة في مروج بلخ وننغرهار وتخار، وتلتقي القمم الوعرة في بدخشان مع السهول الخصبة في لغمان، تظهر قصة نحل وصمود.
هنا، يُنظر إلى العسل كأكثر من مجرد غذاء، إذ يُعتبر “الذهب الحلو” لما يمثله من مورد حيوي ومصدر رزق لآلاف الأسر في بلد يواجه أزمات سياسية واقتصادية مزمنة وتراجعاً حاداً في المساعدات الدولية.
تراث متجدد.. صناعة تقليدية تنبض بالحياة
لطالما كانت تربية النحل جزءاً راسخاً من التراث الريفي الأفغاني، وقد شهدت العقود الأخيرة إحياء لهذه الصناعة بسبب تزايد الطلب على العسل الطبيعي، وتوفيرها بدائل اقتصادية مستدامة.
من هرات غرباً إلى ننغرهار شرقاً، مروراً ببلخ وبدخشان وتخار، يسعى النحالون إلى تحويل هذه الحرفة إلى رافد اقتصادي قادر على مواجهة التحولات.

يؤكد مصباح الدين مستعين، المتحدث باسم وزارة الزراعة والري والثروة الحيوانية، في تصريح خاص لـ”الجزيرة نت”، أن “إنتاج العسل زاد بنسبة 15% في عام 2024، ليصل إلى 2860 طناً، وذلك بفضل توزيع 237 ألف صندوق نحل، وتنظيم دورات تدريبية موسعة في ولايات رئيسية”. ومن المتوقع أن يتراوح إنتاج عام 2025 بين 2800 و3000 طن اعتماداً على الاتجاهات الحالية.
هرات.. قلب الإنتاج وبوابة التغيير
تُعتبر ولاية هرات الواقعة غرب البلاد مركزاً استراتيجياً لإنتاج العسل، مدفوعة بمناخها المعتدل وحقول الزعفران المشهورة. تنتج الولاية ما بين 200 و250 طناً سنوياً من العسل عبر حوالي 25 ألف صندوق نحل.
يقول محمد ياسر جمشيدي، نحّال من مديرية غوريان: “بدأت بـ6 خلايا، والآن أمتلك 35 خلية تنتج 400 كيلوغرام سنوياً. الطلب على عسل الزعفران مرتفع، لكن تكلفة الصناديق تظل عائقًا”.
من جانبها، تروي فاطمة علي زاده، شابة من مديرية إنجيل: “بعد مشاركتي في دورة تدريبية نظمتها الوزارة، أصبحت أمتلك 20 خلية. هذا العمل منحني استقلالاً مالياً وشعوراً بالقدرة”.
ننغرهار.. وديان خصبة وطموحات شابة
في شرق أفغانستان، تُعتبر ننغرهار واحدة من أبرز الولايات إنتاجًا للعسل بفضل وديانها الغنية بالأزهار البرية.
أحمد مياخيل، شاب عاد من باكستان إلى جلال آباد، استثمر مدخراته في شراء 10 خلايا نحل، تنتج 100 كيلوغرام سنويًا، ويقول: “الجفاف يُهدد الأزهار، وغياب التدريب يحد من قدرتنا على التوسع”.

رغم التحديات، يقود أحمد مبادرة شبابية لتدريب النحالين. وتنتج الولاية نحو 150 طناً سنوياً من خلال 15 ألف صندوق نحل، غير أن ضعف التغليف وغياب أنظمة التسويق الحديثة يقيّد فرص التصدير.
بلخ.. طموح نسائي في المروج الخصبة
تُعتبر بلخ بيئة مثالية لتربية النحل وسط المروج الزراعية الغنية. وتقول زهرة محمدي، شابة من مدينة مزار شريف: “بعد مشاركتي في دورة تدريبية، أصبحت أدير 12 خلية تنتج 120 كيلوغراما”.
وقد نما عدد المناحل بنسبة 30%، مما يمنحنا أملاً كبيراً، رغم أننا نواجه نقصاً حاداً في التمويل”. وتقود زهرة فريقاً نسائياً مدعوماً من منظمات محلية، وتنتج بلخ نحو 180 طناً سنوياً عبر 18 ألف صندوق، مع خطط لاقتحام أسواق الخليج.
بدخشان.. جودة العسل في أعالي الجبال
في ولاية بدخشان الشمالي، تتحدث الأزهار الجبلية عن نكهة خاصة للعسل، ولكن النحالين يواجهون تحديات مناخية كبيرة. يقول عبد المجيد بدخش: “أنتج 150 كيلوغراماً من 15 خلية، لكن الأمطار الغزيرة في السنة 2022 قلّصت الإنتاج بنسبة 50%”.
هبط الإنتاج من 113 طناً في 2021 إلى 48 طناً في 2022، لكنه بدأ يتعافى تدريجياً ليصل إلى 70 طناً في 2024، بفضل التدريب الموسع وامتلاك حوالي 7 آلاف صندوق نحل، لكن الطرق الجبلية الوعرة لا تزال تعيق النقل والتسويق.
لغمان.. حلم التوسّع وسط ندرة الموارد
في ولاية لغمان شرقي البلاد، تُعتبر الزهور البرية مصدراً طبيعياً للنحل، لكن التحديات اللوجستية تقف حائلاً أمام التوسع. يقول سراج الدين الكوزي، من مديرية عليشنك: “بدأت بخليتين، واليوم أمتلك 40 خلية تنتج 600 كيلوغرام سنوياً. عدم توفر مستودعات تخزين يمنعنا من التوسع”.

يحلم سراج بإنشاء تعاونية لتسويق العسل في كابل ودول الخليج. وتنتج لغمان حوالي 100 طن سنوياً عبر 10 آلاف صندوق، وفق تقديرات محلية.
تخار.. صمود في مواجهة الجفاف
في سهول تخار، وعلى الرغم من الجفاف وقلة الأمطار، يواصل النحالون العمل. يقول رحيم الله من تالقان: “أدير 20 خلية تنتج 200 كيلوغرام، لكن الجفاف قلّص الإنتاج بنسبة 30%”.
يشارك رحيم في جمعية محلية تضم 500 نحال يديرون 12 ألف صندوق نحل، بإنتاج سنوي يصل إلى 75 طناً، بعد أن كان 107 أطنان في 2023.
يُصدّر جزء من عسل تخار إلى الخليج عبر باكستان، رغم العقوبات التي تُعيق التوسع.
خارطة الإنتاج بالأرقام
تظهر الإحصاءات الرسمية نمواً ملحوظاً في قطاع إنتاج العسل:
- في عام 2019، بلغ الإنتاج 2100 طن، ثم ارتفع إلى 2490 طناً في 2020.
- وفي عام 2023، سجّل حوالي 2487 طناً، تمهيداً للزيادة المسجلة في 2024 التي بلغت 2860 طناً.
تشير التوقعات إلى استمرار النمو في 2025.
- هرات: 200-250 طنا (25 ألف صندوق)
- ننغرهار: 150 طناً (15 ألف صندوق)
- بلخ: 180 طناً (18 ألف صندوق)
- بدخشان: 70 طناً (7 آلاف صندوق)
- لغمان: 100 طن (10 آلاف صندوق)
- تخار: 75 طناً (12 ألف صندوق)
يدير هذا القطاع الحيوي أكثر من 27 ألفاً و700 نحال أفغاني، منهم 652 امرأة.
بيئة فريدة وتحديات مزمنة
تتمتع أفغانستان ببيئة مثالية لإنتاج العسل الطبيعي، بدءاً من زعفران هرات وصولاً إلى أزهار بدخشان، لكن التحديات تبقى قائمة.
تشمل هذه التحديات:
- نقص المعدات: لا تزال عمليات الفرز تُجرى يدوياً، مما يؤثر على جودة العسل ويزيد من تكاليفه.
- ضعف البنية التحتية: غياب شبكات النقل الحديثة ومراكز التعبئة يعيق الوصول إلى الأسواق.
- التغيرات المناخية: الجفاف في بعض الولايات والأمطار في أخرى تؤثر سلباً على المحاصيل.
- العقوبات الدولية: تعرقل تصدير العسل إلى أوروبا والخليج.
صناديق النحل في أفغانستان تمثل مصدر رزق مهم للعائلات (الجزيرة)
الفئة الناشئة يقودون التغيير
رغم كل التحديات، تظهر مبادرات محلية يقودها الفئة الناشئة والنساء:
- فاطمة في هرات تدير فريقاً نسائياً.
- أحمد في ننغرهار يبني مبادرات تدريبية.
- زهرة في بلخ تقود حركة نسوية في المناحل.
- عبد المجيد في بدخشان يشارك المعرفة والخبرة.
- سراج في لغمان يخطط لإنشاء تعاونية تسويقية.
- رحيم الله في تخار يشارك في تنظيم جمعية أهلية.
وتعكس هذه المبادرات -بدعم من منظمات غير حكومية وبرامج تركية- حيوية المواطنونات الريفية وقدرتها على مواجهة التحديات.
بديل إستراتيجي للأفيون
منذ قرار حظر الأفيون في عام 2022، الذي أدى إلى تراجع زراعته بنسبة 95% حسب الأمم المتحدة، برزت تربية النحل كبديل اقتصادي واعد، خاصة في ولايات ننغرهار وبلخ ولغمان وتخار، مع دعم مشاريع زراعية دولية.
يقبل المزارعون في هرات أيضاً على التحول من زراعة الخشخاش إلى الزعفران والعسل.
استراتيجيات قيد التنفيذ
يقول الخبير الماليةي عبد الواحد نوري إن قطاع العسل في أفغانستان “يساهم في تقليل الاعتماد على المساعدات الخارجية، ويخلق فرص عمل محلية مستدامة”.
يوصي بإنشاء مراكز تعبئة حديثة في هرات وننغرهار، وتوفير قروض ميسرة للنحالين، وتأسيس شراكات تسويقية مع أسواق الخليج.
في المقابل، كشف مصباح الدين مستعين أن الوزارة “تخطط لإنشاء 10 مراكز تعبئة بحلول 2026، مع التركيز على الولايات القائدية ذات الإنتاج المرتفع، لتعزيز قدرات التصدير”.
خلية الأمل
من جبال بدخشان إلى مزارع بلخ، ومن أودية ننغرهار إلى سهول تخار، تتناثر خلايا النحل كشاهد حي على صمود الريف الأفغاني في وجه الظروف القاسية. فهي أكثر من مجرد خلايا لإنتاج العسل، إنها خلايا أمل، تنبض بالحياة والكرامة والفرص.
قصص فاطمة وأحمد وزهرة وعبد المجيد وسراج ورحيم الله تجسد روحا جديدة تنبع من قلب الأزمة وتعبر عن مستقبلٍ يمكن أن يُبنى بمجهودات محلية ومساندة دولية.