تحليل خاص | شاشوف
كشف مجلس الذهب العالمي عن بيانات لافتة تشير إلى أن الطلب العالمي على المعدن الأصفر بلغ مستويات غير مسبوقة منذ ما يقرب من عقد خلال الربع الأول من عام 2025، مدفوعاً بموجة من المخاوف الاقتصادية التي دفعت المستثمرين بقوة نحو الأصول التي تعتبر ملاذات آمنة، هذه الطفرة في الطلب، المتزامنة مع ارتفاعات قياسية في أسعار الذهب، ترسم صورة واضحة لحالة عدم اليقين التي تخيم على الاقتصاد العالمي.
ووفقاً للتقرير الفصلي الصادر عن المجلس، ارتفع إجمالي الطلب على الذهب (بما في ذلك التعاملات خارج البورصة غير الرسمية) بنسبة 1% خلال الفترة من يناير إلى مارس 2025 ليصل إلى 1,206 أطنان مترية. ويمثل هذا الرقم أعلى مستوى يتم تسجيله للطلب في ربع أول منذ عام 2016، مما يشير إلى تحول كبير في توجهات المستثمرين.
أرجع مجلس الذهب العالمي هذا الإقبال المتزايد على الذهب إلى مجموعة من العوامل المترابطة التي غذت شهية المستثمرين، وأشار التقرير إلى أن “شبح الرسوم الجمركية الأمريكية، وعدم اليقين الجيوسياسي، وتقلبات سوق الأسهم، وضعف الدولار الأمريكي” شكلت مجتمعة القوى الدافعة الرئيسية وراء هذا الطلب القوي خلال الربع الماضي، وهذه العوامل مجتمعة خلقت بيئة استثمارية معادية للمخاطرة، دفعت بالكثيرين إلى البحث عن الأمان في بريق الذهب.
أسعار الذهب تحلق عالياً في بيئة متقلبة
تزامنت هذه الزيادة في الطلب مع أداء سعري استثنائي للمعدن النفيس، فقد لفت المجلس إلى أن متوسط سعر تثبيت الذهب في فترة ما بعد الظهر في سوق لندن للسبائك (LBMA PM fix)، وهو مؤشر سعري رئيسي، بلغ 2,860 دولاراً للأونصة خلال الربع الأول، مسجلاً ارتفاعاً هائلاً بنسبة 38% مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي.
وواصل الذهب تسجيل مستويات قياسية متتالية، حيث تعززت أسعاره بشكل أكبر في الربع الثاني الحالي، مسجلة مستوى قياسياً جديداً بلغ 3,500.05 دولار للأونصة في 22 أبريل. ورغم بعض التصحيحات السعرية الطفيفة منذ ذلك الحين، حيث يتم تداول الذهب حالياً حول مستوى 3,382 دولاراً للأونصة، إلا أنه لا يزال مرتفعاً بنسبة مذهلة تبلغ 29% منذ بداية العام.
وأكد المجلس أن مكاسب الأسعار الكبيرة التي تحققت في عام 2025 “أشعلتها شرارة الرسوم الجمركية الأمريكية، وترسخت بفعل المخاوف من السياسات الأمريكية المتقلبة وغير المتوقعة، بالإضافة إلى مخاوف من حدوث ركود تضخمي أو ركود اقتصادي صريح، واستمرار القلق الجيوسياسي، وما نتج عن ذلك من اضطرابات في أسواق الأسهم ضمن بيئة شديدة التقلب”.
صناديق الاستثمار المتداولة تقود طفرة الطلب الاستثماري
أوضح مجلس الذهب العالمي أن الارتفاع الكبير في الطلب خلال الربع الأول يُعزى بشكل رئيسي إلى التدفقات الاستثمارية القوية نحو صناديق الاستثمار المتداولة المدعومة بالذهب (Gold ETFs). وقال المجلس إن “الانتعاش الحاد في تدفقات صناديق الاستثمار المتداولة بالذهب أدى إلى مضاعفة إجمالي الطلب الاستثماري ليصل إلى 552 طناً”.
ويمثل هذا الرقم ارتفاعاً ضخماً بنسبة 170% مقارنة بالعام السابق، وهو أعلى مستوى يتم تسجيله للطلب الاستثماري عبر هذه الصناديق منذ بداية عام 2022، وهي الفترة التي شهدت بداية حرب أوكرانيا ودفعت المستثمرين نحو الملاذات الآمنة.
وخلال الربع الأول من 2025، ارتفعت حيازات صناديق الاستثمار المتداولة العالمية من الذهب بمقدار 226 طناً، ليصل إجمالي الحيازات إلى 3,445 طناً، وهو أعلى مستوى منذ مايو 2023. وبفضل الطفرة في أسعار الذهب، بلغت القيمة الإجمالية للأصول تحت الإدارة (AUM) في هذه الصناديق ذروتها عند 345 مليار دولار بنهاية الربع.
واللافت للانتباه، بحسب المجلس، هو أن “الأسابيع القليلة الأولى من الربع الثاني شهدت تسارعاً إضافياً في الطلب على صناديق الاستثمار المتداولة العالمية المدعومة بالذهب، ولا سيما في القارة الآسيوية، حيث تجاوزت التدفقات المسجلة حتى الآن إجمالي التدفقات للربع الأول بأكمله”.
وأضاف المجلس أنه “إذا استمر الطلب بهذا المعدل طوال شهر أبريل (الماضي)، فقد نشهد أقوى سلسلة من التدفقات المتواصلة على مدى ثلاثة أشهر منذ تفشي الجائحة التي دفعت المستثمرين بكثافة إلى الذهب في عام 2020”.
وكانت الحيازات الجماعية في صناديق الاستثمار المتداولة المدعومة بالذهب قد بلغت ذروتها التاريخية عند 3,929 طناً في نوفمبر 2020، أي أعلى بحوالي 10% فقط من المستويات الحالية، مما يشير إلى إمكانية تسجيل أرقام قياسية جديدة إذا استمر الزخم الحالي.
قوة في السبائك والعملات وضعف في المجوهرات
في الوقت الذي شهد فيه الاستثمار عبر الصناديق طفرة كبيرة، سجل الطلب على السبائك والعملات الذهبية المادية أيضاً أداءً قوياً، حيث بلغ 325 طناً خلال الربع الأول، بزيادة قدرها 3% مقارنة بالعام السابق.
وأوضح مجلس الذهب العالمي أن “الصين كانت المحرك الرئيسي لهذا الارتفاع، مسجلة ثاني أعلى ربع لها على الإطلاق من حيث الاستثمار الفردي في السبائك والعملات”. وتجاوز الطلب العالمي على السبائك والعملات متوسط الخمس سنوات بنسبة ملحوظة بلغت 15%.
ومع ذلك، وفي تناقض واضح، قال المجلس إن “الطلب على المجوهرات الذهبية انخفض بشكل حاد في ظل بيئة الأسعار القياسية”، حيث أدت الأسعار المرتفعة إلى إحجام المستهلكين عن شراء الحلي والمجوهرات.
وتراجعت أحجام مبيعات المجوهرات خلال الربع الأول إلى أدنى مستوياتها منذ التراجع الكبير الذي شهده الطلب في عام 2020. وانخفض الطلب الإجمالي على المجوهرات بنسبة 19% على أساس سنوي ليصل إلى 434 طناً فقط.
البنوك المركزية تواصل الشراء.. وإن بوتيرة أبطأ
واصلت البنوك المركزية حول العالم تعزيز احتياطياتها من الذهب، وإن كانت وتيرة مشترياتها قد تباطأت قليلاً في الربع الأول مقارنة بالفترة نفسها من العام السابق. فقد اشترت المؤسسات الرسمية 244 طناً من الذهب خلال الربع الأول من 2025، وهو ما يمثل انخفاضاً بنسبة 21% مقارنة بالربع الأول من عام 2024.
ويأتي هذا بعد أن كانت البنوك المركزية قد اشترت 333 طناً خلال الربع الرابع من العام الماضي. وعلى الرغم من هذا التباطؤ الفصلي، إلا أن إجمالي مشتريات البنوك المركزية خلال العام الماضي تجاوز عتبة الـ 1000 طن للعام الثالث على التوالي، مما يؤكد الأهمية الاستراتيجية المتزايدة للذهب كأصل احتياطي رئيسي.
أما بالنسبة للمعروض العالمي من الذهب، فقد شهد ارتفاعاً طفيفاً بنسبة 1% خلال الأشهر الثلاثة الأولى من عام 2025 ليصل إلى 1,206 أطنان. وجاء هذا الارتفاع مدعوماً بزيادة طفيفة في إنتاج المناجم الذي بلغ 856 طناً، بينما شهدت مستويات إعادة تدوير الذهب انخفاضاً طفيفاً لتصل إلى 345 طناً.
تعكس بيانات مجلس الذهب العالمي بوضوح الدور التقليدي والتاريخي للذهب كملاذ آمن في أوقات عدم اليقين الاقتصادي والجيوسياسي. ففي ظل المخاوف من تباطؤ النمو العالمي، واحتمالات الركود التضخمي، وتصاعد التوترات التجارية التي تقودها سياسات الحماية الجمركية الأمريكية، وتقلبات أسواق الأسهم، وضعف الدولار، يلجأ المستثمرون، أفراداً ومؤسسات، إلى الذهب كأداة للحفاظ على القيمة والتحوط ضد المخاطر. إن قدرة الذهب على الاحتفاظ بقيمته، بل وزيادتها، في أوقات الأزمات تجعله مكوناً أساسياً في المحافظ الاستثمارية المتنوعة.