إبراهيم طوقان، شاعر القضية الفلسطينية، جعل من الأرض موضوعًا مركزيًا في شعره قبل نكبة 1948. عبّر عن حبه العميق لفلسطين مستخدمًا رموزًا متعددة تعكس قيمتها. تتنوع دلالات “الأرض” في قصائده، حيث تتحول إلى وطن ينبض بالحب، وأم تحتضن أبنائها، وأرض تنقلب إلى سلاح في مواجهة الغاصبين. انتقد بشدة سماسرة الأرض، معبّرًا عن قلقه حيال مصيرها. عبّر أيضًا عن ألم الوطن الجريح ودعا للدفاع عنه، مأنذرًا من مصير وشيك. تُظهر قصائده التزامًا راسخًا بالقضية، حيث اعتبر الأرض رمزًا للنضال والفداء، محذّرًا من خطر الضياع الذي يتهددها.
لقد استخدم شعراء النكبة الفلسطينية وما تلاها الأرض العربية في فلسطين كمصدر للتعبير في تجاربهم الشعرية، مستمدين منها حرارة القصيدة وعنفوان الثورة وعمق الحقد على الغاصبين. في هذا السياق، اتخذ الشاعر إبراهيم طوقان، قبل النكبة، من الأرض الغالية قيمة خاصة، مركزاً شعورياً حيوياً لتحلق حوله قصائده الوطنية، التي كانت تحمل النقد الواقعي والنبوءة الصادقة والعشق لأرض فلسطين المهددة بالضياع.
كيف لا يجعل إبراهيم طوقان من أرضه قيمة تتألق في قصائده وهو يقف على تراب يهتز تحت قدميه، مهدداً بالضياع على يد الطامعين؟
تعددت معاني الأرض القيمية لدى شاعر القضية، حيث أظهرت قصائد إبراهيم كيف تشكل الأرض كقيمة في أكثر من رمز ودلالة، وكيف تحمل مفهومًا ووظيفة شعرية متنوعة تصل إلى عمق الألم والفجيعة.
تتكرر كلمة (الأرض) في قصائد إبراهيم بشكل ملحوظ، مما يدل على أنها كانت هاجساً وجودياً وفكرياً في كل تجربة شعرية له.
لكن دلالة كلمة الأرض تتباين من قصيدة لأخرى، وتتغير إشراقتها المعنوية حسب السياق الفني والموضوعي. فالشاعر، في مرحلة الأربعينيات وما تلاها، كان ملزماً أن يحارب عبر تجربته الشعرية في جبهات متعددة.
تمثل الأرض، عند إبراهيم طوقان، قيمة عظيمة تحتل مكانة القلب، حيث يعبر عن حبه الكبير لها في قصائد الوطنية، خاصة عندما يتحدث عن جبل عيبال في نابلس.
جبل له بين الضلوع صبابة
كادت تحول إلى سقام مزمن
وتفجرت شعرا بقلبي دافقا
فسكبت صافية ليشرب موطني
كان طوقان يعشق الطبيعة الخلابة في فلسطين، عيشاً عشقاً يصل لحد الهيام، حيث يشعر وكأنه يحمل وديانها في قلبه وقمم جبالها في عينيه:
سفراء الصباح نور وطير
تتغنى في مائسات الغصون
وجلال الوديان ملء الحنايا
وجمال الجبال ملء العيونِ
وفي مواضيع شعرية أخرى، يمثل الأرض الأم الرؤوم التي تحتضن شهداءها وتحتوي كل من يضحي من أجلها، مما يعكس علاقة اندماجية قوية بين الإنسان والأرض، حيث يقول في رثاء نافع العبوشي:
حوته أوطانه في جوفها فغدا
كأنما هو قلب وهي أضلاع
يا موطنا في ثراه غاب سادته
لو كان يخجل من باعوك ما باعوا
وعندما يتحدث عن اتحاد الشهيد بالأرض، يُعبر قائلاً:
ربما أدرج التراب سليبا من الكفن
لست تدري بطاحها غيبته أم القنن
هذه الأرض التي تعانق أبناءها أحياء وتودعهم عند الموت، تتحول في نظر إبراهيم طوقان إلى أفعى ملعونة تنفث السم في وجه الغاصبين، حيث يصبح دم أبنائها شراباً نارياً يصرع الطامعين:
لبن الأرض فاض سما زعافا
ودما فانزلوا بها وأقيموا
واشربوه ملء البطون هنيئا
هكذا تشرب الذئاب الهيم
وفي مواجهة الطامعين، تتحول الأرض إلى كنوز من النكبات، يكتنز داخلها ذهب ملوث بالموت، حيث تنطق الأرض لتقول لهم: لن تحصدوا شيئاً مما زرعتم سوى صفرة الموت:
دخلاء البلاد إن فلسطين لأرضٌ كنوزها من نكال
تبرها صفرة الردى فخذوه عن بنيها وأذنوا بارتحال
عندما يسلط إبراهيم طوقان الضوء على سماسرة الأرض، يكتسب مضمون الأرض معنى جديدًا كائناً ثائرًا، تلعن عقوق أبناء يضيعون أرضهم بلا مبالاة. يقول الشاعر بأسلوب هجائي:
لا تلمني فكم رأيت دموعا كاذبات ضحكت من بكاها
قد سقى الأرض بائعوها بكاء لعنتهم سهولها ورباها
تثير ظاهرة سماسرة الأرض قلق الشاعر، حيث يجد نفسه محاصراً بين الشتم والنصيحة، فيعبر عن جهل هؤلاء داعياً إياهم للتفكير في عواقب أفعالهم:
ازروا بالمال فالأرض صندوق مالكم بل قوامه
اشتروا الأرض تشتريكم من الضيم واتٍ مسودة أيامه
كما ينصحهم كذلك:
يا بائع الأرض لم تحفل بعاقبةٍ ولا تعلمت أنّ الخصم خداع
فكر بموتك في أرضٍ نشأت بها واترك لقبرك أرضا طولها باع
وفي تحذيرات اجتماعية، يقول لبائع الأرض:
ليصم عن مبيعه الأرض يحفظ بقعة تستريح فيها عظامه
وفي أحيان أخرى، يشعر إبراهيم بالصدمة إزاء الجرائم التي يرتكبها السماسرة، فيوجه لهم أقسى النقد:
وطنٌ يباعُ ويُشتري وتصيح فليحيا الوطن
لو كنت تبغي خيره لبذلت من دمك الثمن
وفي رثائه للملك فيصل الأول، يظهر مرارته تجاه مآسي التآمر على الأرض:
ما الذي اعددت من طيب القرى
يا فلسطين لضيف معجل
لا أرى أرضا نلاقيه بها
قد أضاع الأرض بيع السفل
من شدة غيظه يشبه أحد الثقلاء ببائع الأرض، متخذاً تشبيهاً قبيحاً له:
أنت أنكى من بائع الأرض عندي
أنت أعذاره التي تدعيها
لك وجه كأنه وجه سمسار
على شرط أن يكون وجيها
تبدو الأرض في شعر إبراهيم كائنًا يتبرأ من هؤلاء الذين يعبثون بمصيرها، حيث تصرف لهم الطبيعة ظهرها:
لمن الربيع وطيبه وهواه والزهر البديع
فرح الربيع لمن له أرض وليس لمن يبيع
أما في الجانب الإيجابي، فإنه يشيد بكل من يخلص لأرضه، ويخلد ذكرى الشهداء في أشعاره الوطنية. في قصيدته “يا رجال البلاد”، يلعن السماسرة ويظهر الشخصية النبيلة التي لا تتفاوض على أرضها، حتى لو كانت الثمن حياتها:
رحم الله مخلصا لبلاد ساوموه الدنيا بها فأباها
لو أتوه بالتبر وزن ثراها لأباهُ وقال أفدي ثراها
ليس من الضروري تعدد قصائد إبراهيم الكبيرة في الوطني التي تعرض النضال العربي الفلسطيني، حيث يمكن الإشارة إلى قصائد “الثلاثاء الحمراء” و”الشهيد” و”الفدائي” التي شيعت وحكي عنها كثيرًا، وتجسد عناصر النضال الشعبي في وجه الاستيطان.
يبرز صور الأم الجريحة التي تستنجد بأبنائها في القصائد، حيث يستشعر طوقان مشاعر الجراح الفلسطينية في حين يهمل بل شعراء بلاده المآسي التي تعيشها فلسطين:
ففي إحدى قصائد طوقان، يوقظ الشوق لدى شوقي ليجمع بينهما ويدعوه للتفكر في تاريخ فلسطين:
عرّج على حطين واخشع يُشجِ قلبك ما شجاني
وانظر هنالك هل ترى آثار (يوسف) في المكان
أيقظ صلاح الدين رب التاج والسيف اليماني
ومثيرها شعواء أيوبية الخيل الهجان
وفي قصيدة أخرى، يشير إبراهيم بلهجة نقدية:
سيقولون قُدّسَت هذه الأرض فما آن لنا بها شيطان
بل فلسطين بالشياطين ملأى ضحت الإنس منهم والجان
وفي الختام، يكمن السؤال: هل دخلت الأرض دائرة النبوءة عند شاعرنا وأصبحت مركز الرؤية المستقبلية؟ الإجابة هي نعم، حيث كان إبراهيم طوقان يدرك بعمق جراح الأرض وآلامها، مأنذراً من النكبة والتصحير الأيديولوجي، كما يوجه تحذيراً لابن فلسطين:
يا ابن البلاد وأنت سيد أرضها
وسمائها إني عليك لمشفق
انظر لعيشك هل يسرك أنه
ورد بغيض هجرة تتدفق
وفي قصيدته الشهيرة “مناهج”، يأنذر من ضياع الأرض والإنسان، مع تنبؤه بسقوط القصور وتدمير الأكواخ:
أمامك أيها العربي يومٌ
تشيب لهوله سود النواصي
فلا رحب القصور غدا بباقٍ
لساكنها ولا ضيق الخصاصِ
وفي النهاية، ماذا حدث للأرض التي دافع عنها إبراهيم بشراسة؟ وإلى أي مدى صحت نبوءات الشاعر؟