فتح التحول نحو السيارات الكهربائية وزيادة الاعتماد على الإلكترونيات أمام إندونيسيا فرصة استراتيجية في سلسلة إمداد المعادن النادرة وبطاريات السيارات. تمتلك إندونيسيا أكبر احتياطيات من النيكل عالميًا، وقد تحولت من تصدير الخام إلى معالجة النيكل. في 2022، زادت صادرات النيكل إلى 30 مليار دولار. رغم تأخر تطور سلسلة إمداد بطاريات السيارات، تسعى إندونيسيا لتصبح ضمن أكبر 3 دول منتجة للبطاريات بحلول 2027. ومع ذلك، يتطلب هذا التطور ضمانًا لاستدامة الإنتاج، حيث تعتمد معالجة النيكل على الطاقة الكربونية. تحتاج الولايات المتحدة لشراكة تفيد الطرفين لتقليل اعتمادها على الصين في هذه الصناعة.
أدى التحول العالمي نحو السيارات الكهربائية وزيادة الاعتماد على الأجهزة الإلكترونية، إضافة إلى المواجهةات التجارية بين الولايات المتحدة وأوروبا من جهة، وكون الصين هي أكبر منتجة لمعدن الأرض النادرة من جهة أخرى، إلى فتح الأبواب أمام إندونيسيا لكي تصبح مركزًا إستراتيجيًا في سلاسل إمداد المعادن النادرة وصناعة بطاريات السيارات الكهربائية.
نظرًا لنقص احتياطياتها الطبيعية ومصادرها المحلية من معادن الأرض النادرة المستخدمة في معظم الصناعات المتقدمة، بدءًا من السيارات الكهربائية وصولاً إلى الأقمار الصناعية ومركبات الفضاء، تواجه الولايات المتحدة تحديًا ملحًا في تأمين سلاسل توريد موثوقة لهذه المعادن بعد معالجتها.
في تحليل نشرته مجلة ناشونال إنتريست، تشير آنا بورغيل، المحاضرة في سياسة التحول إلى الطاقة المستدامة بكلية الدراسات الدولية المتقدمة في جامعة جون هوبكنز الأميركية، وسلامى خليل، الباحثة في الكلية نفسها، إلى أن إندونيسيا تُعد من الخيارات القائدية للولايات المتحدة من أجل تأمين إمدادات موثوقة من المعادن الأساسية ومكونات بطاريات السيارات الكهربائية.
إندونيسيا.. أكبر احتياطي من النيكل
وذكرت المحللتان أن إندونيسيا تمتلك أكبر احتياطات من النيكل في العالم، وازدادت إنتاجها في السنوات الأخيرة، وتحولت أيضًا من دولة مصدرة للنيكل الخام إلى مركز رئيسي للمعالجة والتصنيع.
في 2022، فرضت السلطة التنفيذية حظرًا على تصدير النيكل الخام غير المعالج، مما أجبر المستثمرين الأجانب على إنشاء مصاهر ومرافق معالجة في إندونيسيا.

وقد أثمرت سياسة إندونيسيا للاستفادة من احتياطيات النيكل عن نتائج مذهلة، حيث تضاعفت عائدات صادرات النيكل أكثر من 10 مرات خلال عقد من الزمان، لتصل إلى 30 مليار دولار عام 2022، ويُعزى جزء كبير من هذا النمو إلى صادرات المنتجات ذات القيمة المضافة مثل النيكل الحديدي، وحديد النيكل الخام، والفولاذ المقاوم للصدأ بدلاً من الخام.
على سبيل المثال، زادت قيمة صادرات النيكل الإندونيسي المستخدم في الفولاذ المقاوم للصدأ إلى 11.9 مليار دولار في عام 2022. ولفتت إيف واربورتون، الباحثة في التغيرات السياسية والاجتماعية، إلى ظهور آفاق استخراجية جديدة في إندونيسيا بسرعة مدهشة، إضافة إلى مراكز صناعية.
مع ذلك، شهدت سلاسل توريد بطاريات السيارات الكهربائية والأجهزة الإلكترونية في إندونيسيا تأخرًا مقارنة بعصر الفولاذ المقاوم للصدأ، وحتى وقت قريب، كانت صناعة النيكل في إندونيسيا تستهدف إنتاج النيكل “الفئة الثانية” المُستخدم في صناعة الصلب، وليس مركبات النيكل عالية النقاء “الفئة الأولى” الضرورية للبطاريات.
<pنظرًا لذلك، انخفضت صادرات إندونيسيا من منتجات النيكل المتعلقة بالبطاريات في السنوات الأولى من حظر التصدير، من حوالي 307 ملايين دولار في عام 2014 إلى 196 مليون دولار في عام 2022، مما يعكس نقص القدرة التصنيعية اللازمة لإنتاج مواد مناسبة للبطاريات، وفقًا للمحللتين.
خطة إندونيسية
لمعالجة هذه القضية، وضعت السلطة التنفيذية الإندونيسية خطة لتصبح واحدة من أكبر ثلاث دول منتجة لبطاريات السيارات الكهربائية في العالم بحلول عام 2027، مع توقعات بقدرة تبلغ 140 غيغاوات/ساعة بحلول عام 2030. وقدمت السلطة التنفيذية حوافز مغرية، مثل إعفاءات ضريبية تصل إلى 20 عامًا للمشروعات الكبرى، لجذب المستثمرين إلى هذا القطاع.
تصدّرت الشركات الصينية استثماراتها في قطاع المعادن الأساسية بإندونيسيا، تلتها شركات كورية جنوبية ويابانية. وبحلول عام 2021، أطلقت إندونيسيا فلسفة “الاستخلاص الحمضي العالي الضغط (HPAL)؛ مما ساهم في سد فجوة حيوية في سلسلة التوريد عبر إنتاج مواد كيميائية من النيكل يمكن استخدامها في البطاريات. بحلول عام 2023، تم كشف الستار عن ستة مشاريع لاستخراج الحمض العالي الضغط في إندونيسيا.
هذا يعني أن إندونيسيا أصبحت قادرة على توفير ليس فقط الخام، بل المواد المكررة اللازمة لإنتاج أقطاب الكاثود في بطاريات الليثيوم. مما رسّخ مكانتها كمزود شامل لكل عناصر سلسلة الإمداد من المناجم إلى المواد الكيميائية المستخرجة، وهي جزء يمثل التحدي الأكبر في سلسلة التوريد التي تحتاجها الولايات المتحدة والدول الغربية لتأمين احتياجاتها بعيدا عن الإنتاج الصيني والروسي، وفق المحللتين.

إلا أن المشكلة تكمن في أن هذا التطور الصناعي في إندونيسيا حاصل دون مشاركة أمريكية تذكر، رغم أن إنتاج هذا القطاع من النيكل والكوبالت يتم استخدامه في سيارات تسلا وغيرها من السيارات الكهربائية الأمريكية.
عنصر حيوي
في الوقت نفسه، يعد النيكل ضروريًا ليس فقط في صناعة البطاريات عالية الكثافة المطلوبة لزيادة مدى السيارات الكهربائية، بل أيضًا لتقليل الاعتماد على الكوبالت الذي يصعب الحصول عليه، وزيادة تكلفته.
من وجهة نظر أميركية، فإن قطاع النيكل في إندونيسيا يمثل قيمة استراتيجية حيوية لبناء سلاسل توريد بطاريات أكثر مرونة وتنويعًا. واستغلال الموارد الإندونيسية يتيح تلبية الطلب المتزايد على النيكل في السيارات الكهربائية، ويقلل من الاعتماد على الصين، التي تهيمن على ما يصل إلى 90% من سلسلة توريد بطاريات الليثيوم المؤين العالمية حاليًا.
لذا، فإن الشراكة مع إندونيسيا تتيح للولايات المتحدة تقليل الفارق الهائل مع الصين في إنتاج بطاريات السيارات الكهربائية. ففي حين وصل إنتاج الصين من هذه البطاريات عام 2023 إلى حوالي 480 غيغاوات/ساعة، لم تنتج الولايات المتحدة سوى 58 غيغاوات/ساعة، وفقًا لرؤية المحللتين.
وفي الوقت نفسه، تتحول إندونيسيا إلى مركز شامل لسلسلة توريد السيارات الكهربائية في منطقة المحيطين الهندي والهادي. وإذا استمرت الولايات المتحدة في تجاهل هذا الأمر، فلن يكون لها تأثير يُذكر على المعايير أو التسعير أو تدفقات الإمدادات القادمة من واحدة من أهم مراكز هذه الإمدادات في العالم.
ومع ذلك، تواجه إندونيسيا تحديًا كبيرًا يتمثل في اعتماد صناعة معالجة النيكل الخام على الكهرباء المولدة من الفحم مما يجعلها صناعة ملوثة للبيئة، ووفقًا للتقديرات؛ فإن إنتاج كل طن من النيكل المعالج ينبعث منه حوالي 58.6 طن من ثاني أكسيد الكربون.
ضعف متزايد
تضع هذه الحقيقة ضغوطًا متزايدة على صناعة النيكل العالمية، حيث يتزايد اهتمام مشتري المعادن بالاستدامة، وفي الوقت نفسه تمثل فرصة للولايات المتحدة لمساعدة إندونيسيا في تطوير إنتاج “النيكل الأخضر” باستخدام بدائل لأفران الصهر، ودمج مصادر الطاقة المتجددة أو منخفضة الكربون، والاستفادة من تقنية احتجاز الكربون، حسب المحللتين.
وهناك أسباب وجيهة تُشير إلى ارتفاع الطلب على “الفولاذ الأخضر” وغيره من المواد منخفضة الكربون المستخدمة في البطاريات، حيث ستتطلب الأسواق الأوروبية واليابانية تلك المواد بشكل متزايد للامتثال للوائح التصدير.
وأخيرًا، تؤكد آنا بورغيل وسلمى خليل من خلال تحليلهما أن إندونيسيا ليست مجرد فرصة استثمارية للشركات الأميركية ذات الطموحات العالمية أو الراغبة في التحرر من الهيمنة الصينية على التقنية النظيفة، بل هي واحدة من الجبهات القليلة المتبقية عالميًا التي لا يزال بالإمكان تحقيق مكاسب استراتيجية فيها.