تحليل خاص | شاشوف
يشهد قطاع الشحن البحري العالمي، عصب التجارة الدولية، فترة عصيبة تتلاطم فيها الأزمات من كل حدب وصوب.
فما إن بدأت تظهر تداعيات التوترات الجيوسياسية في البحر الأحمر، حتى عادت الضغوط الناجمة عن الحروب التجارية لتلقي بظلالها، وفي خضم كل ذلك، يعاني القطاع أيضاً من تحدي انخفاض أسعار الشحن الذي يضغط على ربحيته وقدرته على الصمود.
في الآونة الأخيرة، تصدرت أزمة البحر الأحمر المشهد، حيث أدت الهجمات المتكررة على السفن التجارية، المرتبطة بالحرب على غزة، إلى تحويل مسار التجارة العالمية.
شركات شحن عملاقة حولت طريقها بعيداً عن طريق قناة السويس الحيوي، مفضلة الدوران حول رأس الرجاء الصالح. هذا التحول المفاجئ لم يكن مجرد تغيير في المسار، بل كان بمثابة صدمة لسلاسل الإمداد، حيث أدى إلى ارتفاع فوري في تكاليف التشغيل بسبب طول الرحلات – زيادة تتراوح بين 10 إلى 14 يوماً وفق متابعات شاشوف، وزيادة استهلاك الوقود، وارتفاع أقساط التأمين بشكل كبير.
وعادةً يعبر قرابة 12% من حجم التجارة العالمية من خلال هذا الشريان المائي، ما يعني أن الاضطرابات فيه لا تؤثر فقط على جداول الإبحار وتكاليف الشحن، بل تهدد أيضاً بتأخير وصول البضائع الأساسية ورفع أسعارها على المستهلك النهائي في مختلف أنحاء العالم.
وفي التحليلات التي يتابعها شاشوف بهذا الخصوص يتم الربط بشكل وثيق بين هذه الهجمات والأوضاع المأساوية في قطاع غزة، حيث اعتبرت قوات صنعاء -الجهة المنفذة للهجمات- أن أفعالها تأتي رداً على الحرب هناك.
هذا الارتباط يسلط الضوء على حقيقة أن الاستقرار في الممرات المائية الحيوية ليس بمعزل عن الاستقرار السياسي والإنساني في المناطق المحورية، وكان يمكن للعالم أن يتجنب هذه الموجة من الاضطراب لو أن الجهود الدولية تضافرت بشكل حاسم لوقف حرب الإبادة الإسرائيلية ضد غزة، والدفع نحو حل ينهي معاناة المدنيين، الأمر الذي كان من شأنه أن ينزع فتيل العديد من التوترات الإقليمية، بما فيها تلك التي تهدد حرية الملاحة.
الحرب التجارية: ضغط إضافي على قطاع منهك
وبينما كان قطاع الشحن يحاول استيعاب صدمة البحر الأحمر، وجد نفسه في مواجهة تحديات أخرى ليست بالجديدة، ولكنها عادت لتظهر تأثيراتها بقوة.
الحرب التجارية التي اندلعت شرارتها مع بداية الولاية الثانية للرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” بين الولايات المتحدة والصين، والتي شهدت فرض رسوم جمركية عقابية متبادلة، ألقت بظلالها الكثيفة على واحد من أهم الممرات التجارية العالمية عبر المحيط الهادئ.
هذا النزاع، أدى إلى حالة من عدم اليقين أثرت سلبًا على حجم التبادل التجاري، فشركات مثل “هاباغ-لويد” الألمانية اضطرت لإلغاء نحو 30% من رحلاتها بين الصين والولايات المتحدة، فيما أشارت “كونه + ناغل إنترناشيونال” السويسرية إلى توقف كامل لبعض الخطوط وفق متابعات شاشوف وسط توقعات بانخفاض كبير في حجوزات الشحن.
ولم تقتصر الإجراءات على الرسوم الجمركية التي وصلت إلى 145% على بعض السلع، بل امتدت لتشمل تدابير معقدة أخرى كإنهاء إعفاءات ضريبية للشحنات الصغيرة وخطط لفرض رسوم على السفن الصينية الكبيرة التي ترسو في الموانئ الأمريكية بقيمة 1.5 مليون دولار على كل سفينة.
هذه البيئة التجارية العدائية دفعت الشركات الصينية للبحث عن أسواق بديلة، مما أثر على تدفقات البضائع التقليدية. كما تضررت قطاعات نقل محددة بشدة، مثل ناقلات المنتجات الزراعية كالنفط الخام وفول الصويا، حيث توقفت شحنات النفط من الخليج الأمريكي للصين في فترات معينة، وغيرت ناقلات غاز البروبان وجهتها في منتصف الطريق.
معاناة مزدوجة: انخفاض أسعار الشحن يفاقم أزمة الشحن
وفي مفارقة تزيد من تعقيد المشهد، وبالرغم من الارتفاعات اللحظية في تكاليف بعض المسارات بسبب أزمات كالبحر الأحمر، فإن قطاع الشحن البحري كان يعاني، ولا يزال في قطاعات ومسارات أخرى، من ضغوط ناجمة عن انخفاض أسعار الشحن بشكل عام.
هذا الانخفاض، الذي تفاقم بشكل خاص نتيجة لتباطؤ الطلب الناجم عن الحرب التجارية بين الصين والولايات المتحدة والاضطرابات الاقتصادية العالمية الأخرى، وضع عبئاً إضافياً على كاهل الشركات.
ففي فترات سابقة للأزمات الحالية، شهدت أسعار شحن الحاويات تراجعاً حاداً. على سبيل المثال، وصلت تكلفة شحن حاوية بطول 40 قدماً من شنغهاي إلى لوس أنجلوس إلى مستويات متدنية للغاية، كما أشارت بيانات مؤشر “دروري العالمي للأسعار شحن الحاويات” التي يتتبعها شاشوف أسبوعياً.
هذا التراجع في الإيرادات، مقابل تكاليف تشغيل ثابتة أو حتى متزايدة (مثل تكاليف الوقود المتذبذبة والالتزام بمعايير بيئية أكثر صرامة)، أدى إلى تآكل هوامش الربح لدى العديد من خطوط الشحن.
ومثل هذا الانخفاض في الأسعار، حتى وإن كان متقطعاً أو خاصاً بمسارات معينة، يجعل شركات الشحن أقل قدرة على امتصاص الصدمات المفاجئة مثل تلك الناجمة عن التوترات الجيوسياسية.
فعندما تكون الإيرادات مضغوطة بالفعل، يصبح أي ارتفاع غير متوقع في التكاليف أو أي تعطيل للعمليات أكثر إيلاماً، مما يهدد استدامة بعض الشركات الصغيرة والمتوسطة بشكل خاص، ويدفع نحو مزيد من التركز في يد اللاعبين الكبار القادرين على تحمل التقلبات.
في نهاية المطاف، يجد قطاع الشحن البحري نفسه في قلب عاصفة متعددة الأوجه، تجمع بين المخاطر الأمنية المباشرة، والنزاعات التجارية طويلة الأمد، والضغوط الاقتصادية الناجمة عن تقلبات الأسعار.
ويتطلب ضمان استقرار هذا القطاع الحيوي أكثر من مجرد حلول تكتيكية للأزمات الفردية؛ إذ يستدعي رؤية استراتيجية تعالج جذور عدم الاستقرار، سواء كان سياسياً أو اقتصادياً، وتعزز التعاون الدولي لضمان بقاء شرايين التجارة العالمية مفتوحة وآمنة للجميع.
تم نسخ الرابط