إعلان


تسعى إسرائيل، وسط التحركات الدبلوماسية الأميركية للتهدئة في اليمن وغزة، لتكثيف عملياتها العسكرية تمهيدًا لفرض حقائق ميدانية قبل أي مفاوضات مستقبلية. يُعرف هذا التكتيك بـ”معركة الدقيقة الـ90″، حيث تهدف إسرائيل إلى تحقيق مكاسب سريعة، مثل تدمير شبكة الأنفاق في غزة، واستهداف قادة حماس، والضغط على إدارة ترامب. تأتي هذه الاستراتيجية في ظل مخاوف من احتمال تسويات أميركية مع خصوم إسرائيل، مما يُعزز الضغط الداخلي على نتنياهو. ومع ذلك، تبقى السيطرة على مسار الحرب متنوعة بين تل أبيب وواشنطن، وسط مخاطر انزلاق إلى صراعات أوسع.

في ضوء التحركات الدبلوماسية التي تقوم بها إدارة القائد الأميركي دونالد ترامب بهدف الوصول إلى “تسوية” مع الحوثيين في اليمن، وإرسال إشارات واضحة تعزز التهدئة في قطاع غزة، تسارعت الخطوات العسكرية الإسرائيلية، معلنة عن بدء المرحلة الأولى من “عربات جدعون” كما لو كانت تخوض جولات حاسمة في نزال مصيري.

إعلان

هذا التحرك لا يُعتبر مجرد صراع عابر، بل يُعد جزءًا من استراتيجية يتم وصفها في الأوساط العسكرية الإسرائيلية بـ”معركة الدقيقة الـ 90″.

هذا المصطلح الذي بدأ يتردد في التحليلات العبرية يشير إلى تكتيك استغلال الفرص في اللحظات الأخيرة لتحقيق أكبر قدر من المكاسب الميدانية قبل أن تُغلق نافذة الفرص، سواء بسبب ضغوط دبلوماسية أو تفاهمات إقليمية قد تتعارض مع أهداف تل أبيب.

ما يميز هذا التكتيك هو التركيز على السرعة والحسم، حيث تسعى إسرائيل إلى فرض حقائق على الأرض يصعب تغييرها أو تجاهلها في أي مفاوضات مستقبلية.

لكن السؤال الأعمق يبقى: هل هذه الاستراتيجية نابعة من قوة واثقة لإسرائيل، أم من شعور بالضغط والاستعجال نتيجة التغيرات الإقليمية السريعة؟ وما المخاطر المحتملة التي قد تنجم عن هذا النهج؟

من أين جاء هذا التكتيك؟

تكتيك “معركة الدقيقة الـ 90” ليس بجديد في الفكر العسكري الإسرائيلي، لكنه يظهر اليوم في سياق خاص. وفقًا لتحليلات منشورة في صحيفتي “يديعوت أحرونوت” و”هآرتس”، تدرك إسرائيل أن التفاهمات الأميركية مع إيران والحوثيين تسير بخطى أسرع مما يُعلن عنه علنًا من قبل واشنطن.

هذه التفاهمات، التي قد تشتمل على تخفيف العقوبات على طهران أو تسويات مع الحوثيين لتأمين الملاحة في البحر الأحمر، قد تفرض على إسرائيل قيودًا جديدة، مثل “ضبط النفس” أو حتى إنهاء العمليات العسكرية في غزة قبل تحقيق الأهداف المعلنة، مثل: “القضاء على حماس”، أو تدمير قدراتها العسكرية.

في هذا السياق، تسعى إسرائيل إلى ما يُسميه المحللون العسكريون بـ”الفرض الواقعي تحت النار”. هذا يعني تكثيف العمليات العسكرية لتدمير أكبر قدر ممكن من البنية التحتية للمقاومة في غزة، خصوصًا شبكة الأنفاق في رفح، وتنفيذ اغتيالات نوعية تستهدف قادة ميدانيين أو شخصيات أساسية في حماس، وقد تشمل هذه العمليات حزب الله من حين لآخر.

تشمل هذه الإستراتيجية تصعيد الهجمات ضد أهداف تربطها بإيران في اليمن، بهدف تحقيق إنجازات ملموسة يمكن تسويقها داخليًا وخارجيًا كـ”انتصارات” قبل أن تُطالَب إسرائيل بالتوقف تحت ضغط أميركي أو دولي.

هذا النهج يعكس قراءة إسرائيلية دقيقة للتوقيت السياسي. ففي الوقت الذي تُظهر فيه واشنطن استعدادًا للتفاوض مع أطراف كانت تُصنف سابقًا كـ”معادية”، يشعر الإسرائيليون أن نافذة العمل العسكري الحرّ قد تُغلق قريبًا. ومن هنا فإن التركيز على تحقيق النتائج السريعة يمكن أن يُستخدم كورقة ضغط في أي مفاوضات مستقبلية.

ما الذي تخشاه تل أبيب؟

المخاوف الإسرائيلية تتجاوز مجرد إمكانية وقف إطلاق النار في غزة، بل تشمل سيناريوهات أكثر تعقيدًا. من أهم هذه المخاوف أن يتحوّل الاتفاق الأميركي مع الحوثيين إلى نموذج تفاوضي يُطبق لاحقًا مع حماس أو حزب الله، أو حتى مع إيران مباشرة.

مثل هذا النموذج قد يعني إبرام تسويات إقليمية تُسقط دور إسرائيل كمركز في صياغة المعادلات الاستقرارية والسياسية في المنطقة.

في أوساط الاستقرار الإسرائيلي، يُعتبر هذا الاحتمال تهديدًا استراتيجيًا. إذ تخاف إسرائيل، التي اعتمدت طويلًا على وضعها كحليف رئيسي لواشنطن في المنطقة، أن تتحول إلى “متفرج” في ظل تفاهمات أميركية تحسن علاقتها مع خصومها.

يُعزز هذا القلق مع تزايد الإشارات إلى أن إدارة ترامب قد تُعطي الأولوية لمصالحها الماليةية والسياسية، مثل تأمين الملاحة في البحر الأحمر، أو تخفيف التوترات الإقليمية، على حساب الأهداف الإسرائيلية المُعلنة.

علاوة على ذلك، هناك مخاوف داخلية أن أي تسوية تُبرم دون تحقيق “نصر واضح” في غزة ستُضعف موقف رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو سياسيًا. ونتنياهو، الذي يتعرض لضغوط داخلية متزايدة بسبب إخفاقات الحرب، يرى أن استمرار العمليات العسكرية هي فرصة لتحسين صورته أمام الجمهور الإسرائيلي، خاصة في ظل التحديات القانونية والسياسية التي يواجهها.

لماذا تبدو إسرائيل مستعجلة الآن؟

هناك أربعة إشارات رئيسية دفعت إسرائيل إلى رفع وتيرة عملياتها العسكرية في هذه المرحلة:

  1. التقدم الدبلوماسي الأميركي مع الحوثيين: الإعلانات الأميركية الأخيرة عن تحقيق “تقدم إيجابي” في المفاوضات مع الحوثيين تشير إلى احتمال إغلاق جبهة البحر الأحمر، وهي إحدى الجبهات التي تُشغل إسرائيل عسكريًا واقتصاديًا. هذا التقدم يُقلل من قدرة إسرائيل على استخدام تهديد الحوثيين كذريعة لتصعيد عملياتها.
  2. سحب حاملة الطائرات ترومان: قرار الولايات المتحدة سحب حاملة الطائرات “ترومان” من المنطقة يُعتبر في تل أبيب كإشارة إلى أن واشنطن تُفضل خفض التصعيد وتقليص وجودها العسكري في المنطقة، مما يُضعف الغطاء الأميركي للعمليات الإسرائيلية.
  3. تحذيرات داخلية من التباطؤ: داخل الكنيست والمؤسسة الاستقرارية، تزداد الأصوات المأنذرة من أن أي تباطؤ في العمليات العسكرية سيمنح حماس وإيران فرصة لإعادة تنظيم صفوفهما وتعزيز مواقعهما. هذه الأصوات تُدعا بالاستفادة من الوقت المتبقي لتحقيق أكبر قدر من الضرر لقدرات حماس.
  4. حسابات نتنياهو السياسية: بالنسبة لنتنياهو، فإن أي وقف للقتال قبل تحقيق صورة “نصر واضح” يُشكل تهديدًا مباشرًا لاستقرار حكومته. في ظل الانتقادات المتزايدة لأدائه في إدارة الحرب، يرى نتنياهو أن تصعيد العمليات قد يُعزز موقفه أمام خصومه السياسيين.

ما هي “المكاسب” التي تحاول إسرائيل اقتناصها؟

تسعى إسرائيل من خلال تكتيك “معركة الدقيقة الـ 90” إلى تحقيق مجموعة من الأهداف الملموسة والرمزية، تشمل:

تفكيك شبكة الأنفاق في رفح

تُعتبر هذه الشبكة العمود الفقري لقدرات كتائب القسام العسكرية. تدميرها أو إضعافها سيُمكن إسرائيل من تسويق صورة “إنجاز المهمة” في غزة، حتى وإن كانت هذه الصورة بعيدة عن الواقع.

إثبات تفوق استخباراتي

من خلال تنفيذ اغتيالات نوعية تستهدف قادة في حماس أو حزب الله، تسعى إسرائيل إلى استعادة هيبة جهازها الاستخباراتي، الذي تعرض لضربة قوية بعد هجوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023.

الضغط على إدارة ترامب

من خلال تصعيد العمليات، تحاول إسرائيل دفع الإدارة الأميركية إلى موقف محرج، إما بالتورط في دعم التصعيد أو بالظهور كمن “يخذل” حليفته الإسرائيلية، مما يمنح تل أبيب نفوذًا أكبر في المفاوضات.

إعادة تأهيل الردع الإقليمي

من خلال ضربات متزايدة ضد أهداف يمنية، تسعى إسرائيل إلى إرسال رسالة لطهران ووكلائها بأنها لا تزال القوة المهيمنة في المنطقة.

في الميزان: من يملك قرار النهاية؟

رغم الوتيرة العالية للعمليات الإسرائيلية، يتضح أن قرار إنهاء هذه الحرب لا يقع بيد تل أبيب وحدها. فالقرار تتقاسمه مع واشنطن كونها اللاعب الأقوى في المنطقة، حيث تبقى الولايات المتحدة الوحيدة القادرة على ضبط إيقاع التصعيد أو التهدئة من خلال دعمها العسكري والدبلوماسي لإسرائيل.

إسرائيل لا تريد إنهاء الحرب في هذه اللحظة، لكنها تدرك أن الوقت يعمل ضدها. في ظل عجزها عن تحقيق “نصر مقنع” يُلبي طموحاتها الإستراتيجية، تلجأ إلى تكتيك “نصر اللحظة الأخيرة”، حتى وإن كان هذا النصر وهميًا أو مؤقتًا.

لكن هذا النهج محفوف بالمخاطر، إذ قد يُفضي إلى فتح جبهات جديدة بدلاً من إغلاق القائمة، ففي النهاية، تبقى المعادلة مفتوحة على احتمالات متعددة، ويتوقف المشهد على مدى قدرة إسرائيل على إدارة هذا التكتيك دون الانزلاق إلى حرب أوسع قد لا تكون مستعدة لها.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


رابط المصدر

إعلان

اترك رد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا