شهدت الساحة السياسية والثقافية في تونس إصدارات مكثفة حول الحبيب بورقيبة، القائد الراحل، الذي زعم البعض أنه “باني الدولة الوطنية”. مع ذلك، كانت هناك كتابات نقدية محدودة. هذه الإصدارات تأتي ردًا على التغيرات السياسية والاجتماعية التي تلت الثورة في 2011. النخب التونسية القديمة تواجه تحديات من قوى جديدة، مما جعلها تستعيد روح بورقيبة كوسيلة للدفاع عن “الدولة الوطنية”. ومع ذلك، تُبرز تحليلات أكاديمية عدم استقرار مشروع بورقيبة وتسلط الفكر الكولونيالي عليه، مما يدعو إلى ضرورة إحداث قطيعة مع إرثه لإنشاء رؤية جديدة ديمقراطية.
شهدت الساحة السياسية والفكرية والإعلامية في تونس خلال السنوات الأخيرة إصدارًا كثيفًا حول القائد التونسي الراحل، الحبيب بورقيبة، حيث ارتدى معظمها ثوب الدفاع عن “الزعيم”، و”المجاهد الأكبر”، و”باني الدولة الوطنية” كما يسميه بعض النقاد. بينما انحرفت بعض الكتابات النقدية نحو النقد الجاد والعميق أحيانًا.
لم تكن هذه الكتابات بعيدة عن التطورات السياسية في تونس، بل كانت تعكس ردود فعل على المشهد السياسي الذي شهد منذ عام 2011 ثورة ومر بتغيرات هيكلية واجتماعية لم تستطع القوى التقليدية والدولة العميقة استيعابها.
حيث جاء الحراك الاجتماعي والسياسي ليهدد هوية “الدولة الوطنية” ويبدأ في eroding إرث بورقيبة، الذي اعتبره مؤيدوه جزءًا لا يتجزأ من الدولة وفكرها وعلاقاتها.
وعارضوا هذا التحول الذي نتج عن ثورة يناير 2011 لبناء دولة تعاقدية جديدة، بدلًا من “دولة الغلبة” التي أسسها بورقيبة، والتي تعتبر نموذجًا أو مشروعًا مجتمعيًا بالنسبة لمؤيديه.
“المصنّفات البديعة” حول بورقيبة
الحقيقة أن الثقافة التونسية والحراك السياسي والدولة نفسها كانتا رهينة لأفكار بورقيبة وسياساته لمدة 70 عامًا تقريبًا، منذ عام 1956، حيث كانت النخب السياسية والإعلامية من المدافعين عنه، بل تحاول جعله “الرقم الصعب” في كل تحولات المواطنون التونسي.
كتب عنه وزراؤه، مثل الطاهر بلخوجة الذي كتب سيرة بعنوان: “بورقيبة: سيرة زعيم”، وهي إعادة إنتاج لفكر بورقيبة، وكذلك مذكرات الباجي قايد السبسي، والتي كانت تأكيدًا لفكره ومشروعه.
كما حذا وزير الثقافة، الشاذلي القليبي، حذوهم بكتابة مذكرات لم تتضمن أي نقد للزعيم، بل كانت سردية تبرز إنجازاته، مما يشير إلى حجم التأثير الذي تركه بورقيبة.
ولم تتوقف هذه الكتابات عند الوزراء بل امتدت تأثيرات بورقيبة إلى جميع التحولات السياسية التي شهدتها البلاد.
استُدعي “الزعيم” بعد سنوات من انقلاب بن علي في 1987، حيث كتبت الكثير من المقالات عن “استبداد بورقيبة الرحيم”، وكان له صدى قوي عند المقارنة بنظام بن علي، الذي حرص على عدم تصعيد تركته التاريخية.
لافت أن الأصوات المنافحة عن بورقيبة صمتت عندما كان يجب عليهم الدفاع عنه.
مقولات قديمة – جديدة
بعد ثورة يناير 2011 وصعود السياسيين الإسلاميين والعلمانيين المعتدلين من النقاد لبورقيبة، عاد الحديث عن “الزعيم” بصورة قوية، مما يشير إلى صراع مع الاستقرار السياسي والتوازن والثقافة الجديدة.
تحرك وزراء ومثقفون يساريون ونقابيون لإعادة طرح “المدونة البورقيبية” من جديد، وأضافوا عناوين الثورة المضادة، التي لم تتقبل تغييرات الحكم في تونس وصعود خصوم الدولة التاريخيين.
المفارقة أن أقران “التيار الثوري” الذين كانوا من ضحايا سياسات بورقيبة، استعادوا إرثه ودعوا لوضع “مشروع بورقيبة” على الطاولة.
استعاد هؤلاء إرث بورقيبة دون أي خجل بعد أن جلبتهم الظروف السياسية إلى الصفوف، مدّعين أن الدولة الوطنية بحاجة ماسة إلى تقاليدها البورقيبية، وأن الدولة الحالية تحولت إلى دينية.
- ضرورة استعادة الدولة الوطنية التي أسسها بورقيبة، لأن الوضع الحالي يبدو دينيًا.
- أن هذه الدولة لها تقاليد خاصة بالعلاقات الخارجية لا يمكن لها التخلي عنها.
- أن الدولة الوطنية وفقًا لرؤية بورقيبة هي علمانية وبقاء الدولة في حالة من المواجهة مع التيار الإسلامي.
وطبقًا لهذه الهوامش، نُظر إلى انقلاب 25 يوليو 2021 على أنه “حركة تصحيحية”.
- كما أنهم أيدوا فكرة “دمقرطة البورقيبية”، باعتبار أن فترة بورقيبة كانت بحاجة لسند ديمقراطي.
تهافت الخطاب اليساري “الفرانكفوني”
لا يختلف اثنان في تقييم أن هذه المقاربة اليسارية الفرانكفونية كانت أداة لنخبة مافيا القديمة والمحدثة، مستندة إلى السياق الفرنسي القوي الذي يستحوذ على مقدرات البلاد.
مع تفكيك مقولات “البورقيبية”، يتضح تدني خطاب اليسار.
- لم يُؤسس بورقيبة دولة قوية بالمفهوم الحديث.
- حكمه لم يقم على ديمقراطية حقيقية، بل على “الغلبة”.
- الترويج للدولة الاجتماعية التي وُصفت بأنها دليل على عبقرية بورقيبة كانت بمثابة وهم.
- دولة بورقيبة كانت مشروعًا كولونياليًا جديدًا سيطر عليها الفرنسيون.
لذا، فإن العودة إلى بورقيبة تعني العودة إلى هذا المشروع القديم.
أسباب أساسية
السؤال القائدي هنا هو: لماذا تلجأ النخب التونسية، وبشكل خاص اليسارية والليبرالية، إلى بورقيبة في أي محاولة لبناء ديمقراطي جديد؟
الجواب يكمن في عدة أسباب:
- عدم نضوج مشروع الإسلاميين، مما يجعلهم غير قادرين على معالجة التحديات الاجتماعية والماليةية.
- فشل النخبة الجديدة في تغيير الواقع بعد الثورة، حيث بقيت تحت تأثير الدولة العميقة.
- التوافقات السياسية لم تستند إلى مؤسسات قوية، بل اعتمدت على شخصيات سياسية محددة.
- عجز الثوريين عن بناء خطاب ثقافي وإعلامي جديد يتناسب مع التغيير المطلوب.
- المواجهة الخفي بين النخب الجديدة والدولة العميقة التي تعرقل أي محاولة لتجديد الأفكار.
- القوانين والتشريعات الحالية لم تتغير بشكل جذري، مما يعوق عملية البناء.
- دور القوى الخارجية التي لا ترغب في انتهاج أي خطة تفكك الإرث الكولونيالي.
اليوم، تونس في مأزق تاريخي نتيجة الإرث البورقيبي الذي لا يزال له تأثير قوي.
ومن هنا، يجب على النخب الديمقراطية التونسية تحقيق “قطيعة إبستمولوجية” مع بورقيبة ونمطه، بعيدًا عن أي دعوات توافق سطحية.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.