إعلان


في مايو 2025، شهدت مواقف الدول الغربية تجاه الحرب الإسرائيلية على غزة تحولًا ملحوظًا، إذ اعتمدت لغة قانونية قوية وصرحت عن مراجعة العلاقات مع إسرائيل. بدأت ست دول أوروبية بإدانة الانتهاكات، ونوّهت على مكانة فلسطين. تصاعد الضغط الشعبي والإعلامي على الغرب، مع اعتراف مؤسسات دولية بحجم المأساة. في ظل هذه الضغوط، قامت دول مثل أيرلندا وهولندا بفرض قيود على التعاون العسكري، بينما تدهورت صورة إسرائيل على الساحة الدولية. هذه التحولات تمثل بداية محتملة لتغيير بنيوي في العلاقات الأوروبية-الإسرائيلية، على غرار الضغط الذي واجهته جنوب أفريقيا في فترة الفصل العنصري.

لقد شهد شهر مايو/ أيار 2025 تحولًا ملحوظًا في المواقف الرسمية الغربية حيال الحرب المستمرة على غزة، حيث تم اعتماد لغة قانونية صارمة في وصف الانتهاكات، وطرح مراجعات علنية للعلاقات مع تل أبيب، وزيادة الدعوات لتقييد التعاون العسكري والماليةي.

إعلان

ما كان يُعتبر منذ سنوات جدار دعم غربي غير قابل للاختراق، بدأ يتصدع، ليس فقط في الأوساط الإعلامية والنقابات، بل أيضًا داخل المجلس التشريعيات والحكومات ذاتها.

لكن يظل السؤال الأهم: لماذا الآن؟ ما الذي جعل هذا التحول ممكنًا بعد عقود من التواطؤ أو التجاهل؟ وما السياقات والتطورات – الإقليمية، والحقوقية، والداخلية – التي ساهمت في تحقيق هذا المشهد الجديد؟

ثم، الأهم من ذلك: إلى أي مدى ستؤثر هذه المواقف والضغوط – رغم أنها لا تزال دون مستوى العقوبات الشاملة – على سلوك إسرائيل فعليًا؟ وهل يمكن الاعتماد عليها لإحداث اختراق في جدار الحصانة السياسية الذي أحاطت به نفسها لعقود طويلة؟

في هذا المقال، نسعى لتقديم إجابات منهجية لهذه الأسئلة من خلال تتبع أبرز ملامح المواقف الغربية الجديدة، وتحليل منطلقاتها، وتقييم حدودها وإمكاناتها المستقبلية:

هل نحن أمام بداية تحول بنيوي في العلاقات الغربية مع إسرائيل، أم مجرد جولة مؤقتة من الغضب الأخلاقي سرعان ما ستختفي أمام متطلبات الإستراتيجية؟

أولًا: مواقف غربية رسمية غير مسبوقة

في الإسبوع الأول من مايو/ أيار 2025، شهد الخطاب الأوروبي تحولًا نوعيًا في التعاطي مع إسرائيل، مع مواقف رسمية تميزت بشفافية قانونية صارمة وخطوات عملية غير مسبوقة، مما يعكس كسرًا للتحفظ الدبلوماسي الذي ظل يهيمن على العلاقات الغربية- الإسرائيلية.

إدانة خطط إسرائيل.. ومكانة فلسطين القانونية

في 7-8 مايو/ أيار، أصدرت ست دول أوروبية: (أيرلندا، إسبانيا، سلوفينيا، لوكسمبورغ، النرويج، وآيسلندا) بيانًا مشتركًا اعتبرت فيه محاولات إسرائيل لتغيير ديمغرافية غزة وتهجير سكانها ترحيلًا قسريًا وجريمة بموجب القانون الدولي. كما نوّهت البيان على أن غزة “جزء لا يتجزأ من دولة فلسطين”، في تأكيد قانوني صريح لمكانة فلسطين، التي كانت الحكومات الأوروبية تتجنب التصريح بها بهذه الوضوح سابقًا.

اتهام إسرائيل بسياسة الحصار والتجويع

وصف البيان نفسه الحصار الإسرائيلي المستمر منذ 2 مارس/ آذار بأنه “مانع شامل للمساعدات الإنسانية والإمدادات التجارية”، ودعا برفعه الفوري دون تمييز أو شروط.

كما وثقت منظمة الرعاية الطبية العالمية في 12 مايو/ أيار، أن غزة تواجه واحدة من أسوأ أزمات الجوع عالميًا، مع وفاة عشرات الأطفال، ووصفت الوضع بأنه نتيجة ل”حرمان متعمّد من الغذاء”، مما يقترب من تصنيفه كجريمة حرب أو حتى جريمة إبادة محتملة.

رفض الآلية الأميركية- الإسرائيلية لتوزيع المساعدات

في 19 مايو/ أيار، أصدرت 22 دولة، من بينها فرنسا، ألمانيا، المملكة المتحدة، وكندا، بيانًا مشتركًا أعربت فيه عن رفضها للآلية الجديدة التي اقترحتها إسرائيل بالتعاون مع الولايات المتحدة لتوزيع المساعدات في غزة.

واعتبرت هذه الدول أن “النموذج الجديد” يفتقر للفاعلية، ويربط المساعدات بأهداف عسكرية وسياسية، ويقوّض حيادية الأمم المتحدة، ويعرّض السنةلين والمستفيدين للخطر. كما نوّهت على أن سكان قطاع غزة “يواجهون المجاعة ويجب أن يحصلوا على المساعدات التي يحتاجون إليها بشدة”.

دعوات لحظر التسليح ومراجعة الشراكات

أبدت هولندا تحولًا واضحًا في خطابها التقليدي تجاه إسرائيل. فقد صرح وزير خارجيتها كاسبر فيلد كامب بوجوب “رسم خط أحمر” عبر مراجعة اتفاقية الشراكة الأوروبية مع إسرائيل، وصرح تجميد أي دعم حكومي لتمديدها.

كما شددت السلطات الهولندية الرقابة على تصدير المواد ذات الاستخدام المزدوج منذ أبريل/ نيسان. وفي أيرلندا، صوّت مجلس الشيوخ بالإجماع أواخر أبريل/ نيسان لصالح فرض عقوبات على إسرائيل ومنع مرور الأسلحة الأميركية عبر الأجواء الأيرلندية، في خطوة رمزية لكنها تعكس تغير المزاج التشريعي والمؤسساتي بوضوح.

تحركات نحو الاعتراف بدولة فلسطين

من أبرز مظاهر التحول أيضًا، تلويح عدد من الدول: (فرنسا، لوكسمبورغ، إسبانيا، أيرلندا، سلوفينيا)، باعتبار الاعتراف بدولة فلسطين ضرورة سياسية لحماية حل الدولتين.

وكان قد سبق ذلك اعتراف رسمي من أيرلندا، وإسبانيا، والنرويج بدولة فلسطين في مايو/ أيار 2024، ثم سلوفينيا في يونيو/ حزيران، مما رفع عدد دول الاتحاد الأوروبي المعترفة إلى عشر دول على الأقل، معظمها من أوروبا الغربية، بما يُشكّل تحولًا غير مسبوق في بنية العلاقات الأوروبية- الإسرائيلية.

انضمام بريطانيا إلى دائرة التحوّل

وفي تطور نوعي، صرح وزير الخارجية البريطاني ديفيد لامي، خلال جلسة المجلس التشريعي في 20 مايو/ أيار 2025، تعليق مفاوضات اتفاقية التجارة الحرة مع إسرائيل، وفرض عقوبات على ثلاثة مستوطنين ومنظمتين إسرائيليتين متورطتين بأعمال عنف في الضفة الغربية.

كما وصف الحصار المفروض على غزة بأنه “غير أخلاقي ولا يمكن تبريره”، مدعاًا برفعه الفوري، بينما دعا رئيس الوزراء كير ستارمر إلى وقف إطلاق النار وزيادة المساعدات الإنسانية، مؤكدًا أن “مستوى المعاناة في غزة لا يُحتمل”.

ثانيًا: ضغط الشارع، وانكشاف الفظائع

ولكن: لماذا الآن؟ وهل التحول الغربي لحظة عابرة أم بداية تغير بنيوي؟

لم يكن التحول في المواقف الغربية تجاه إسرائيل مجرد نتيجة لقرار سياسي منفرد أو يقظة أخلاقية مفاجئة، بل جاء نتيجة تراكم غير مسبوق من الضغوط الإعلامية، والشعبية، والحقوقية، والدبلوماسية التي اجتمعت في لحظة انكشاف عالمي كامل لما يجري في غزة. السؤال عن “لماذا الآن؟” يجد إجابته في تلك اللحظة الكاشفة التي بات فيها التغاضي الغربي مرادفًا صريحًا للتواطؤ.

صور الأطفال المتوفين جوعًا، مشاهد الدمار الكامل، المقابر الجماعية والمجازر المستمرة، فرضت نفسها على الإعلام التقليدي والمنصات الرقمية رغم محاولات الحجب. حتى عالم الفن والثقافة انخرط في الإدانة، كما حدث عشية مهرجان “كان” حين وقع أكثر من 350 فنانًا عالميًا على رسالة تصف ما يحدث في غزة بالإبادة الجماعية. بالتوازي، وثقت منظمات مثل العفو الدولية، وهيومن رايتس ووتش، واليونيسيف تفاصيل الجرائم بدقة لا تُطاق.

في الولايات المتحدة، بدأت موجة الاحتجاجات الشعبية تتصاعد بقوة في أواخر عهد القائد السابق جو بايدن، وسط اتهامات علنية لإدارته بالتواطؤ في الجرائم المرتكبة في غزة، وتحول وسم “Genocide Joe” إلى رمز للاحتجاج الرقمي.

ومع وصول إدارة ترامب الثانية، استمرت التظاهرات، خاصة في الأوساط الجامعية والنقابية؛ احتجاجًا على استمرار الدعم غير المشروط لإسرائيل، رغم أن ذلك اتخذ طابعًا أكثر تحديًا للخطاب الرسمي الصدامي.

أما في أوروبا، فقد شهدت مدن كبرى مثل مدريد، دبلن، لاهاي، وأوسلو مظاهرات حاشدة دعات بوقف فوري للحرب ومحاسبة إسرائيل. ومن أبرز التحركات المؤسسية، كان تصويت اتحاد النقابات النرويجي (LO) بنسبة 88% لصالح مقاطعة شاملة لإسرائيل، تشمل سحب صناديق التقاعد من الشركات الداعمة للاحتلال، وهي خطوة غير مسبوقة في أوروبا.

ترافق الضغط الشعبي مع تصدعات في الخطاب السياسي: أكثر من 53 ألف شهيد فلسطيني، منهم 15 ألف طفل؛ تدمير كامل للبنية التحتية: (الصحية، المنظومة التعليميةية، الزراعية…)؛ ومجاعة جماعية وثقتها الأمم المتحدة.

ورغم ذلك، يظل السؤال قائمًا: هل نشهد تغيرًا بنيويًا في السياسات الغربية، أم مجرد موجة غضب ظرفية ستنتهي سريعًا؟

التحذير من “النكوص” مشروع، لكن المؤشرات الإيجابية لا يمكن تجاهلها: دول مثل أيرلندا وإسبانيا، تبنّت مواقف كانت تُعتبر راديكالية، مثل فرض قيود على العلاقات العسكرية والاعتراف بدولة فلسطين.

كما تشكّلت كتل أوروبية تنسق مواقفها بجرأة، كما في البيان السداسي لوزراء خارجية آيسلندا، أيرلندا، النرويج، سلوفينيا، إسبانيا ولوكسمبورغ. كذلك بدأنا نرى تغيّرات داخل المجلس التشريعي الأوروبي نفسه، مع تصاعد أصوات تدعا بمحاسبة إسرائيل قانونيًا.

ثالثًا: دور إعادة التموضع الإقليمي

لا يمكن فهم هذا التحول دون التوقف عند الترتيبات الجيوسياسية التي ساهمت في دفعه. فبالتزامن مع تصاعد الخطاب الأوروبي المنتقد لإسرائيل، نشطت إدارة ترامب على عدة جبهات إقليمية في مطلع مايو/ أيار 2025.

ففي 7 مايو/ أيار، تدخلت واشنطن لاحتواء تصعيد عسكري خطير بين الهند وباكستان بالتعاون مع مجموعة السبع (G7). وفي اليمن، رعت هدنة بحرية بين الحوثيين والتحالف السعودي- الإماراتي، بوساطة عُمانية، أسفرت عن خفض التوتر في البحر الأحمر.

هذه التهدئة الإقليمية قد جردت إسرائيل من الأوراق التي طالما استخدمتها لتبرير استمرار الحرب على غزة، خاصة ما يتعلق بـ”محور إيران- الحوثيين-حماس”.

وتُرجِم ذلك دبلوماسيًا في تراجع الحرج الأوروبي من اتخاذ مواقف علنية صارمة تجاه تل أبيب. بل تشير بعض التقديرات إلى دور خليجي غير معلن في هذه التهدئة، مقابل ضغوط أميركية على إسرائيل، مما سمح للغرب بإعادة التموضع دون الدخول في صدام مباشر مع واشنطن.

وبهذا، جاء التحول الغربي نتيجة “ترتيب سياسي هادئ” أكثر من كونه لحظة أخلاقية خالصة. لكنه، رغم محدوديته، شكّل بيئة جديدة أكثر تحررًا للحكومات الأوروبية التي بادرت بتعليق اتفاقيات، فرض عقوبات، واستدعت سفراء، كما حدث في لندن، دبلن، وأوسلو.

رابعًا: إسرائيل وجنوب أفريقيا

والسؤال: هل سيكون الوضع كما جنوب أفريقيا؟ هل تقود الضغوط الغربية إلى تغيير حقيقي في سلوك إسرائيل؟

رغم أن العقوبات الغربية المفروضة حتى الآن لا ترقى إلى مستوى الردع، فإن تأثيرها الواقعي بدأ يظهر على أكثر من صعيد. تعليق صفقات الأسلحة، خصوصًا من دول أوروبية، ووقف مرورها عبر الأجواء، كما فعلت أيرلندا، يعقد عمليات الإمداد العسكرية الإسرائيلية. حظر المواد ذات الاستخدام المزدوج يقيّد تصنيع بعض مكونات الأسلحة الدقيقة. تجميد الاتفاقيات التجارية، وتهديد هولندا وفرنسا بإعادة تقييم الشراكة مع إسرائيل، يضعان تل أبيب في مواجهة عزلة اقتصادية بدأت بالفعل.

ولا يقل الأثر السياسي أهمية: انكشاف إسرائيل على الساحة الدولية، وتصدع صورتها كشريك غربي “طبيعي”، وعودة قضيتها إلى ساحات المحاكم والمنظمات الدولية، كلها تطورات تعيد تعريف الكلفة السياسية لجرائمها.

هذا الضغط لم يكن فقط من الحكومات، بل من البنية المواطنونية الغربية: النقابات، الجامعات، الأحزاب، ومن داخل برلمانات كانت تصمت أو تبرّر تلك الجرائم حتى الأمس القريب.

بهذا المعنى، فإن هذه الخطوات السياسية – رغم محدوديتها – تمثل كسرًا للإجماع الغربي التقليدي على دعم إسرائيل المطلق، وتفتح الباب أمام الانتقال من الإدانة الخطابية إلى أدوات ضغط ملموسة، تشمل مراجعة الاتفاقيات، تعليق الشراكات، وتقييد العلاقات الدبلوماسية، بما قد يؤدي لاحقًا إلى اتخاذ تدابير أكثر صرامة.

وهي لحظة تذكّر، من حيث الشكل والمناخ الدولي، بالبدايات التي سبقت فرض العقوبات الشاملة على نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، حين بدأت الدول الغربية بإجراءات تدريجية قبل أن تنهار شرعية النظام الحاكم تحت وطأة الضغط المتزايد.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


رابط المصدر

إعلان

اترك رد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا