إعلان


في ظل الأزمة الماليةية وارتفاع أسعار الذهب في مصر، أصبح تحويل “شبكة” الخطوبة من الذهب إلى الفضة خيارًا متزايدًا للعديد من الفئة الناشئة. كريم عبد المعطي، شاب مصري، اضطر لاختيار شبكة فضة بسبب التكلفة الباهظة للذهب، مما يعكس تحولًا اجتماعيًا تجاه هذه العادة التقليدية. الأسعار قفزت بشكل غير مسبوق، مما دفع بعض الأسر لتأجيل الخطوبة أو التفكير في بدائل. مبادرات مجتمعية على وسائل التواصل الاجتماعي بدأت تشجع على استبدال الذهب بالفضة، مما يُظهر تغييرًا في القيم والتقاليد. هذا التحول ليس فريدًا لمصر، بل يعكس اتجاهات عالمية في مواجهة الأزمات الماليةية.

الإسكندرية – يقول كريم عبد المعطي، شاب مصري في منتصف الثلاثينيات ويعمل موظفًا بإحدى شركات التسويق: “كنتُ أحلم أن أُهديها عقدًا من الذهب مثلما فعل أبي مع أمي، ولكن عند زيارة الصاغة، وجدت أن حلمي تحول إلى عبء ثقيل لا يمكنني تحمله”. وقد اضطر مؤخرًا لاستبدال “شبكة” خطوبته التي كان يخطط لها منذ سنوات بأخرى من الفضة، في تغيير لم يكن مألوفًا قبل الارتفاعات الكبيرة في أسعار الذهب.

إعلان

قصة عبد المعطي ليست حالة فردية، بل تمثل تحولًا مجتمعيًا متزايدًا في البيوت المصرية نتيجة تفاقم الأزمة الماليةية، وتراجع القدرة الشرائية، والزيادة الكبيرة في أسعار الذهب.

هذا التحول لا يمس الأرقام فحسب، بل يتحدى واحدة من أكثر التقاليد رسوخًا في مراسم الزواج وهي “شبكة الذهب”، التي كانت ترمز يومًا ما إلى الفخر ودليلًا على جدية الشاب واستعداده لتحمل المسؤولية.

ويرى المراقبون أن هذه “الشبكة” أصبحت اليوم عبئًا يدفع الكثيرين لإعادة التفكير في شكل الارتباط ذاته.

أرقام قياسية وتبدل في الأولويات

في أواخر أبريل/نيسان 2025، سجل سعر غرام الذهب من عيار 21، الأكثر شيوعًا في مصر، نحو 5100 جنيه مصري (حوالي 106 دولارات) بعدما كان لا يتجاوز 800 جنيه (حوالي 44 دولارًا بناءً على سعر الصرف وقتها) قبل 7 سنوات فقط.

هذا الارتفاع القياسي جعل شراء الشبكة الذهبية حلمًا بعيد المنال حتى لأولئك من الطبقة المتوسطة.

احتياطي <a class=

يوضح ممدوح خليل، صاحب محل مجوهرات في الإسكندرية، أن متوسط تكلفة “الشبكة” التي كانت تتراوح بين 15 و20 ألف جنيه (ما بين حوالي 830 و1100 دولار بناءً على سعر الصرف في عام 2018) تجاوزت الآن 100 ألف جنيه (حوالي 2084 دولارًا حاليًا) حتى في أبسط تصاميمها.

ويقول للجزيرة نت “الزبائن يأتون للسؤال ثم يغادرون في صمت، حتى من يشتري يطلب أقل وزن ممكن، أو قطعة واحدة فقط بدلاً من طقم كامل”.

هذا الواقع دفع بعض الأسر لتأجيل الخطوبة أو التفكير في بدائل، أبرزها شراء الفضة كخيار عملي ومقبول اجتماعيًا، حتى وإن واجه ذلك بعض المقاومة التقليدية.

مبادرات مجتمعية ورسائل تضامن

بدأت بوادر التغيير في الظهور منذ السنة الماضي عندما أطلقت بعض الصفحات المحلية على فيسبوك مبادرات شعبية تشجع على استبدال الفضة بالذهب تحت عناوين مثل “الذهب مش دليل المحبة” و”الفضة بركة” و”مش لازم دهب علشان تتجوز”.

ومع تفاقم الأزمة، تفاعل آلاف المستخدمين بالتعليقات، وأعاد الكثير من الفئة الناشئة في الفترة الأخيرة تداول الصور لخواتم وخلاخيل فضية باعتبارها “شبكات ذات قيمة”، مع تعليقات ساخرة أو داعمة.

أميرة ياسين، دعاة دراسات عليا في علم الاجتماع بجامعة الإسكندرية، تقول إن وسائل التواصل الاجتماعي لعبت دورًا في كسر “التابوهات التقليدية” حول مظاهر الارتباط.

وتضيف “في الماضي، كان إعلانك عن رفض الذهب يعني أنك غير قادر، لكن اليوم قد يكون للفضة دلالة على وعينا ومسؤوليتنا تجاه بناء حياة مستقرة بلا ديون”.

يقول أحمد سلامة (37 عامًا)، موظف في شركة خاصة، “أنا خاطب منذ 6 أشهر، واتفقنا من البداية على شبكة فضة بدلًا من الذهب، ليس فقط بسبب الأسعار، ولكن حتى نبدأ حياتنا بدون ضغوط، فلم يعد الموضوع غريبًا، وإن انتظرنا الذهب، ستضيع ما تبقى لنا من أيام الفئة الناشئة في الانتظار”.

سارة حسين، منسقة مبادرة “اتجوز ببساطة”، تقول “بدأنا المبادرة في الجامعة لتشجيع الفئة الناشئة على مشاركة تجاربهم في تقليل تكاليف الزواج، وعند اقتراحنا التحول إلى شبكة الفضة كان التفاعل كبيرًا، والبعض اقترح طلاءها بطبقة من الذهب، فالناس بحاجة إلى نموذج بديل ليشعروا بأنهم ليسوا وحدهم”.

السلطة التنفيذية المصرية تقرر إعفاء واردات الذهب من الضريبة الجمركية لمواجهة ارتفاع الأسعار (مراسل الجزيرة نت)
مبادرات شعبية على وسائل التواصل شجعت على استبدال الذهب واختيار الفضة (الجزيرة)

المفارقة أن الفضة لم تكن غريبة تمامًا عن تقاليد الخطبة في مصر، بل كانت خيارًا شائعًا في قرى الصعيد والدلتا خلال منتصف القرن الماضي، خصوصًا في المناطق الريفية ذات الدخل المحدود.

ومع صعود ثقافة الاستهلاك والانبهار بالمظاهر، تراجعت هذه العادة تدريجيًا لصالح الذهب، الذي أصبح يمثل “مخزن الثقة” أكثر من كونه زينة، وفقًا لمراقبين.

تقول الكاتبة والباحثة في الفلكلور المصري عبير الجمل إن العديد من العائلات كانت تحتفظ بخواتم وخلاخيل فضية كجزء من جهاز العروس حتى نهاية الثمانينيات.

وتضيف للجزيرة نت “الفضة تحمل رمزية أيضًا، فهي تعكس معاني الطُهر والبساطة، واستخدامها اليوم لا يجب أن يُفسر كضعف، بل قد يُعتبر عودة إلى الجوهر”.

في زوايا أخرى من المشهد، تظهر مؤشرات ظهور تغيرات جذريّة في تفكير بعض الفئة الناشئة المصري، تجسدها حملات على الشبكة العنكبوتية تدعو للزواج من دعاات أجنبيات من دول مثل ماليزيا وإندونيسيا، بسبب “بساطتهن وابتعادهن عن طلبات الذهب والمبالغات”.

وعلى الرغم من أن هذه الدعوات لم تتحول إلى ظاهرة بعد، فإنها تعكس -وفق مختصين- نزعة احتجاجية تجاه “معايير الزواج المستحيلة” في المواطنون المصري، حيث ترتفع تكاليف الزواج بشكل لا يقدر عليه الفئة الناشئة.

“من الناحية الشرعية، لا يشترط الدين الإسلامي نوعًا معينًا من الشبكة أو المهر، بل يشجع على التيسير، وقد ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم زوّج رجلًا بخاتم من حديد”، يقول الشيخ علاء عطية، أحد علماء الأزهر الشريف.

ويرى عطية أن الذهب ليس شرطًا لصحة الخطبة، ويضيف للجزيرة نت “ما يقدمه الرجل من شبكة أو هدية هو نوع من الترضية، وليس عبادة، والأصل في الزواج هو القبول والنية الحسنة، وليس القيمة القطاع التجاريية للهدايا”.

هذا الطرح يتلاقى مع ما يقوله والد آية عبد الله، فتاة من محافظة الغربية، بأنه لا يمانع إذا كانت شبكة ابنته مصنوعة من الفضة عند ارتباطها، واستخدام ثمن الشبكة في تجهيزات أخرى تحتاجها حفلات الزواج.

يقول الأب “ما يهمني هو الخُلق والدين، فيما يخص الذهب، فهو سيُستهلك ولا يبقى. أنا ضد وضع التقاليد كعبء على أولادنا”.

ولكن السيدة إيمان عبد المنعم -موظفة- لم تعجبها فكرة تحويل شبكة العروس من الذهب إلى الفضة، وترى أنه ليس الحل الأمثل لتصاعد الأسعار، ويجب على الزوج أن يتحمل مسؤوليته تجاه هذه العادة التقليدية، التي تختلف حسب المستوى الاجتماعي للعروسين، مع إمكانية الاكتفاء بمشغولات ذهبية بسيطة لتسهيل أمور الزواج بدلاً من الفضة الأقل قيمة.

899898 1747489957
خبراء المالية يؤكدون أن الفضة تمثل تحوًلا طبيعياً في ظل الأزمات المتكررة (الجزيرة)

تقاليد متغيرة في مواجهة الأزمات

من منظور اقتصادي، التحولات في طقوس الزواج ليست جديدة. فقد شهد التاريخ المصري تعديلات مشابهة في فترات الأزمات، ففي أعقاب نكسة 1967 تراجعت مظاهر البذخ، وكذلك خلال موجات ارتفاع الأسعار في السبعينيات والثمانينيات.

يؤكد الخبير الماليةي رشاد عبده، أستاذ المالية بجامعة القاهرة، أن “العادات ليست ثابتة، بل تتشكل وفق الظروف، وما يحدث الآن هو إعادة ترتيب للأولويات، والفئة الناشئة أصبح يفضل تأسيس بيت بسيط بدلاً من شراء ذهب لا فائدة منه سوى المجاملة الاجتماعية”.

يوضح، في حديث للجزيرة نت، أن شراء الذهب أو ما يعرف بـ”الشبكة” للمتزوجين ليس مجرد تقليد اجتماعي متوارث، بل هو ضمان لحق العروسة، وفي بعض الأحيان وسيلة يمكن الاستفادة منها لتأمين مستقبل الأسرة الجديدة في مواجهة تقلبات الزمن.

ويرى أن “المشهد في مصر ليس فريدًا؛ ففي لبنان وفنزويلا، دفعت الأزمات الفئة الناشئة للاستغناء عن الشبكة أو استبدالها ببدائل رمزية، ومع ذلك، فإن هذا الاتجاه لا يزال في بدايته ويواجه مقاومة من بعض العائلات التي ترى أن الشبكة رمز اجتماعي لا يمكن التنازل عنه بسهولة”.

ويتابع الخبير الماليةي: لا يمكن الجزم بأن الذهب سيختفي من حفلات الخطوبة في مصر، لكن المؤكد أن مكانته الرمزية بدأت تتزعزع أمام متغيرات الواقع. فالفضة وإن لم تكن بنفس البريق، قد تمثل بداية عصر جديد من الطقوس الاجتماعية التي تعيد تعريف معنى الزواج، لا كعرضٍ مسرحي للثروة، بل كعقد إنساني تُحدد النوايا فيه، لا الأوزان.

ويشير أستاذ المالية إلى أن انخفاض قيمة الجنيه دفع الكثير من المصريين للبحث عن خيارات لحماية مدخراتهم، ومنها شراء الدولار والعقارات والمعادن النفيسة، بما في ذلك الفضة، التي أصبحت خيارًا مفضلًا.


رابط المصدر

إعلان

اترك رد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا