د. وهيبة فارع
يطلق اليمنيون اسم «الهيجة»، أو «النقيل»، على كل منحدر جبلي يصعب تجاوزه والسير عليه بسهولة. فلا يوجد مصطلح مناسب في قواميس العربية مماثل لما اصطلح عليه اليمنيون، وهو مصطلح يمني خاص، مرتبط بطبيعة الأرض اليمنية، و«هيجة العبد»، التي ذاع صيتها في الآونة الأخيرة، واحدة من أهم الهيجات في يمننا الحبيب على الإطلاق، وتعتبر مكسبًا وطنيًّا بامتياز؛ لأنه يقع على عاتقها ربط التراب الوطني اقتصاديًّا واجتماعيًّا بعد إغلاق كل المنافذ الحيوية.
وقد تحول هذا الطريق الذي حفره أبناء المنطقة بأظافرهم وإمكانياتهم المتواضعة إلى طريق «معجزة»، يقوم بدور لا تراه الجهات المعنية الآن، بسبب عمى الحرب وأهوالها، ولكن بفضله فتحت أبواب الحياة للمواطنين وحركتهم، بعد أن حكمت عليهم الحرب بالعزلة. وبدلًا من توظيف واستغلال أهميته، فقد أهمل كما أهملت للأسف كل المشاريع الخدماتية وحكم عليها بالدمار. عوضًا عن تحسين كفاءته من أجل الحفاظ على أرواح المسافرين، بعد أن كثرت عليه الحوادث المميتة؟
فعلى من تقع مسؤولية انهيار أهم خط يربط البلاد بالداخل والخارج؟
ولمَ لا تقوم الجهات المعنية بترميمه، بعد انهيار قواعده وجسوره، التي لا يعلم أحد أين ستنتهي به؟
بعد قيام الوحدة بعامين أعلن مكتب الأمم المتحدة بصنعاء عن طلب تنفيذ دراسة استشارية لتحديد الطرق المتداخلة الأكثر أهمية بين لحج وتعز، وذلك من أجل إعادة ربط المناطق الحدودية التي شُقّت بطرق تقليدية، وتنتظر الدعم لتشغيلها، ولما كانت «هيجة العبد»، عالقة في الذهن منذ الصغر، فقد اقترحت أن تكون ضمن هذا المشروع الميداني، الذي كنت من ضمن فريقه.
تحرك الفريق من تعز، في طريقه إلى عدن، عن طريق هيجة العبد، وهي الطريق التي يمر بها أبناء المنطقة. وصلنا الأكاحلة قبل الظهر، وكان الضباب منتشرًا، ومقياس الارتفاع في السيارة يشير إلى أكثر من ثلاثة آلاف وثماني مئة قدم عن سطح البحر، فاعتقد الخبراء المرافقين لنا، بأن عطلًا ما قد أصاب السيارة، ولكن ما إن انقشعت السحب، وبدأ الضباب ينحسر تدريجيًّا، حتى ظهر لنا طريق الهيجة، الذي تم شقه بصورة أولية، طريق يتلوى كالثعبان. أصيب الفريق بالفزع، والتردد في النزول وكيفيته، فاقترحت نزول السيارات أولًا، ونسير خلفها حتى نصل طور الباحة، ومن ثم نتابع إلى عدن التي لا تبعد أكثر من ستين كيلو مترًا، التي كنا نراها من مكاننا، ونعود بعدها عن طريق البطينة، والأغبرة، إلى البرح. ثم إلى تعز، في رحلة، ستمكن الفريق من الاطلاع على كل الطرق التقليدية.
بدأت السيارات بالهبوط، ونحن نسير خلفها. في الطريق، كان بانتظارنا الشيخ أحمد سعيد، الذي كان يتولى متابعة شق الطريق منذ بداية العمل. ورافقنا في النزول كي يرينا الطريق، ويشرح لنا بعض التفاصيل التي قد تكون غابت عنا. وعندها علمنا أن أهالي المنطقة، والمجلس المحلي، قد بدؤوا الحفر والتسوية، منذ أكثر من عشر سنوات. بفضل دعم الأهالي المتواصل، ولكن الطريق كان بحاجة إلى تجهيزات مختلفة، وتمويل ضخم، لم تستطع الحكومة، ولا التعاونيات توفيرها، إلا للطرق الرئيسة بين المحافظات، أما بالنسبة للطرق الداخلية، التي تعتبر ثانوية، فلم تحظ بالتمويل والتجهيزات اللازمة.
كنا نلبي دعوات الأهل لحضور مناسباتهم الاجتماعية في قرية «المسيجيد»، أو في قرى «الهويشة»، في منتصف الطريق من الهيجة، وكان النزول يستغرق ثلاث ساعات، بينما يستغرق الصعود من خمس إلى ست ساعات
وصادف أثناء نزولنا، صعود امرأة محمولة على الأكتاف، يقصدون بها مستشفى التربة، ولكنها فارقت الحياة بعد أن قطعوا بها كل هذه المسافة. كان الموقف محزنًا لنا، وفهمنا عند توقفنا بالمدرسة الابتدائية الوحيدة في المنطقة، أن مثل هذا الحادث يمر بهم يوميًّا تقريبًا. وشكل وجود مدرسين من خريجي كلية التربية، دعمًا للمشروع، وقد تعرف الفريق منهم على حجم الصعوبات اليومية، التي يواجهها المرضى والطلاب، للوصول إلى الخدمات الصحية، والتعليمية، في التربة.
وتم دعم المشروع بحوالي ثلاثين مليون ريال حينها، قدمت إلى الحكومة، لاستكمال العمل، فقام مشروع الطرق بمحافظة تعز، بتغطية بقية التكاليف، وتوفير المخططات الهندسية، وآلات الشق، والمهندسين، والإشراف الفني والهندسي على المشروع الذي أصبح تحت مسؤوليتهم بالكامل، وتم توفير الصيانة دون توقف منذ تشغيله، حتى اندلاع الحرب عام ٢٠١٥. أما مهمة الإشراف والمتابعة، فبقيت تحت مسؤولية المجلس المحلي.
لقد شكل قهر الهيجة حلمًا، طالما راود كثيرين في صغرهم، جيل كانت تنتهي رحلته عند مشارفه، لا يتجاوزونها نزولًا عند تعليمات الأهل، خوفًا من ذلك المنحدر الصخري الشاهق، الذي لا يمكن الاقتراب منه إلا لمسافة معينة، لا تمكن من النظر إلى الوديان، أو رؤية ما حولها من القرى الواقعة تحت المنحدر، وكان المسافرون عن طريقه إلى طور الباحة في الأسفل، يمرون عبر ممرات ضيقة جدًّا ليلًا، كي لا تتردد البغال والحمير التي تحمل أمتعتهم. أما السكان، فكانوا يتشاركون في توصيل المواد الغذائية والزراعية، إلى البيوت المعلقة بالهيجة، عن طريق ربطها بالحبال، أو بتمريرها عبر الأنابيب من قمة «الجاهلي» و«الشرف».
ومع مرور الأيام، كبرت الأحلام في قهر هذا الطريق، والتمكن من الصعود إليه، والهبوط منه بسهولة، ولكن الخوف من ذلك الحلم المستحيل، كان يكبر مع التحرك الشاق والطويل للعمل، وتعرض الممرات الضيقة فيه للانهيار بسبب الأمطار، وعدم وجود وسيلة أخرى لتجنب هذه المعاناة، سوى الالتفاف الكامل على الطريق، بمسافة تزيد عن مئتين وخمسين كيلو مترًا عن طريق الراهدة، مرورًا بتعز والتربة، ومنها إلى جبل صبران الربيصة، والأكاحلة والكفيف. ومن ثم النزول إلى الوادي سيرًا على الأقدام، فكان يستغرق يومًا كاملًا، وقد بدأت شيئًا فشيئًا تشق السيارات طريقها، صعودًا إلى بعض القرى المعلقة بالهيجة ووديانها، قادمة من طور الباحة، وبدأ الأهالي يفتحون لها مسارات تقليدية، شديدة الخطورة، تحت ضغط الحاجة، لربط القرى بالوحدات الإدارية، والمدارس، والمستشفيات.
وقد منحت هذه المرحلة دفعة قوية للأهالي للاستمرار، ببذل جهود مضاعفة من خلال التعاونيات، بحفر ما يمكن حفره من طرق بدائية، انتشرت بفضل حركة التصحيح في اليمن، ومن خلال العمل التعاوني الأهلي، والمجالس المحلية، فوجد المشروع مبررًا للاستمرار، حيث حفز العمل التعاوني البيئات المحلية لتوفير بنية أساسية. وكانت فكرة المشروع التعاوني تقوم على الشراكة بين المجتمع، والدولة، التي تعتمد على وضع المواطنين لأسس المشروعات، بحسب إمكاناتهم، وتسليمها إلى الدولة فيما بعد، كي تقوم بإدارتها، وتوفير الكوادر لتشغيلها، كما هو الحال في المدارس، والمستوصفات، التي بنيت خلال فترة السبعينيات.
حفَرَ هذا الطريق على صعوبته وطول مدته التي استغرقت أجيالًا، ذكرياتٍ ارتبطت ببعض مراحل التنفيذ، حتى نهاية الشق الأولي، الذي ساعد على وصول بعض السيارات إلى قمة الهيجة، وكنا نلبي دعوات الأهل لحضور مناسباتهم الاجتماعية في قرية «المسيجيد»، أو في قرى «الهويشة»، في منتصف الطريق من الهيجة، وكان النزول يستغرق ثلاث ساعات، بينما يستغرق الصعود من خمس إلى ست ساعات، وكان الأهالي يراقبون مغامرة اقتحام الهيجة بالسيارات، من بداية تحركها، حتى وصولها، ويشاهدون اندفاع السيارة بضعة أمتار، وعودتها للوراء أمتارًا أخرى، ونزول الركاب لدعمها بالحجارة مرات ومرات، كي تتمكن من الوصول بعد ساعات من الانتظار، والخوف، والدموع، والقلق، فهم غير متأكدين فيما لو سيعود الركاب بخير وسلام، أم لا؟ فالطريق لم يتم تسويته، ولا يتسع لمرور أكثر من سيارة، والصخور الضخمة تحاصره، من كل جانب، والوادي السحيق بانتظار كل خطأ.
من سيجبر مصلحة الطرق، على توسيع هذا الطريق الشريان الحيوي بحق، وتطويره من أجل كل اليمن، قبل فوات الأوان
لقد تم شق هذا الطريق نتيجة إصرار الأهالي، ومساهماتهم الخاصة، وسعيهم لإنجازه، وبجهود أبناء المقاطرة، والأكاحلة، والربيصة، وجبل صبران، والكفيف، وشرف شرجب. وكان الهدف منه تسهيل حركة السكان المحليين بين التربة، وطور الباحة، والوهط وعدن، وربط قراهم بمراكز الخدمات الضرورية، وقد أسهم المواطنون فيما بعد، بتوفير المواصلات الخاصة للطريق، لتسهيل حركة الناس بأجور رمزية، وهكذا شكل طريق الهيجة، تحفة هندسية بعد الانتهاء منه، يتسابق المسؤولون والمواطنون على زيارته، ولم تنقطع عنه الصيانة منذ استكمال شقه ورصفه.
ومع اندلاع الحرب، وقطع شبكة الطرق في عموم البلاد، وإجبار حركة السيارات على استخدام طريق هيجة العبد، بطريقة فوضوية، وتحويله إلى طريق دولي، لكل أنواع السيارات، والقاطرات، بإمكانياته المحدودة، التي تتناقص مع زيادة الاستخدام، وتناقص الخدمات والقدرة على تحمل السيارات الثقيلة، والإهمال التام لأبسط متطلبات الأمان في الطريق، حتى إن هذا الطريق لم يعد يرضي وضعه أحدًا، لا محليًّا ولا وطنيًّا، فقد استهلك تحت ضغط مروري أكبر من قدراته، دون صيانة أو توسيع، وأصبح السير عليه في منتهى الخطورة، في الوقت الذي سيؤدي توقفه إلى كارثة للمنطقة، ولعموم البلاد، التي أصبح شريانها الوحيد مرهونًا إما بالتوقف أو بسرعة المعالجة.
فهل من قراءة صحيحة لأهمية هيجة العبد، ومتابعة الجهات المؤثرة، التي تملك قرار توقيف هذا العبث، ومن سيجبر مصلحة الطرق، على توسيع هذا الطريق الشريان الحيوي بحق، وتطويره من أجل كل اليمن، قبل فوات الأوان؛ لأن توقف الطريق، يعني توقف معظم الطرق التي يصلها، والمشاريع التي يغطيها، ويعني هذا التوقف أيضًا بالنسبة لأهالي هذه المناطق ولكل من يستخدمه، توقفًا للحياة في كل أنحاء البلاد، وهو جريمة قد تكسر ظهور اليمنيين أكثر مما كسرتها الحرب!
هل من مستجيب لإنقاذ طريق «هيجة العبد»، وفي الوقت نفسه صيانة وتطوير طريق نقيل «الصُحى»، من الجهة المقابلة للقرية والحضارم الملاصق لمدينة التربة، أو تهيئة وتعبيد طريق الأحكوم المُصلّى القريب من هيجة العبد، وذلك أجل دعم هيجة العبد، وتخفيف الضغط عليها؟
المصدر: