مقلب وعقاب (3), أحمد سيف حاشد – كنت على الدوام أشعر بقلق ورعب شديد من العقاب.. الخوف يتملكني.. سلطة الخوف لها وطأتها على نفسي.. لم يكن هناك مكان لصنع القناعات التي يؤسسها الوعي لا في البيت ولا في المدرسة..
مدرسة العقاب هي من تحكمنا، ولها الكلمة العليا.. كانت أو تكاد تكون “مدرسة” بصلاحية عقاب يشعرنا الآباء والأستاذ أنها مطلقة.
لا يمكن للأب أن يقول للأستاذ أرفق بابني عند العقاب، بل كان الأب هو من يحث ويشجّع الأستاذ على عقاب ابنه، وأكثر من ذلك يفوّضه بمزيد من الشدة والصلاحية.. الأب يستريح ويشعر بالامتنان للمعلم إذا أنزل بابنه عقوبة مهما كانت شديدة ومؤلمة.
وضعٌ ربما يشعرك وكأن رغبة سادية من الطرفين نحوك تجتمع.. وتجد نفسك محشوراً بينهما في زاوية ضيقة، لا مهرب أمامك ولا مفر منها وراءك.
كنّا محكومين بسلطة الخوف من الأب في البيت، ومن الأستاذ في المدرسة.. كان يخامرني أحساس عميق أن عقوبات الأستاذ والأب قاسية ومنفِّرة وغير إنسانية، ومؤلمة للجسد والروح!
كنتُ نحيلاً ومُنهكاً.. وجهي شاحب ومصفر.. ما زلت أذكر بعض التقاطيع التي كانت تغزو وجهي في طفولتي الباكرة، والتي يفترض أن تأتي في وقت متأخر من العمر.. الخطوط العمودية التي كنتُ أشاهدها بين العينين، وهي تفترس وجه طفولتي، لازالت محفورة ومطبوعة في ذاكرتي كوشم قديم لا يزول ولا يُنسى.
حاولتُ التمارض حتى لا أذهب إلى المدرسة.. كان عدم الذهاب إلى المدرسة يعني بالنسبة لي أن همّاً كبيراً ينزاح ثقله عن كاهلي.. غياب يوم من المدرسة لأي سبب، يجعلني سعيداً، حتى وإن كنتُ أعاني من المرض، وربما أتمنى هذا المرض أن يطول أكبر فترة متاحة أو ممكنة.. أشعر براحة لا مثيل لها رغم وطأة المرض.. أتحرر من هم المدرسة يوم أو اثنين وهو المدى المتاح لي أن أفعله.. كان غياب أي يوم لأي سبب يعني لي فسحة تخفف من مخاوفي وأنجو فيها من الأستاذ والمدرسة والعقاب.
في أحد الأيام قلت ببراءة طفولية لأخي الكبير علي الذي كنت أحبه كثيراً: “سوف أقول لك سراً، ولكن بشرط أن لا تقوله لأحد” فوافق وأعطاني الأمان ومنحني الثقة؛ فأخبرته أنني في الغد سأمرض حتّى لا أذهب إلى المدرسة؛ فوافق، وزاد على موافقته نصيحته لي أن أقسم رأس بصل، وأضعه قبل النوم تحت الإبطين، لأبدو محموماً في الصباح.. قال لي إنهم كانوا يفعلون هذا عندما يريدون التمارض في العسكرة.
فعلتُ بنصيحة أخي وحكمته، ولم أنم تلك الليلة إلا قليلاً حرصاً على قطعتي البصل المحشورة بين الإبطين حتى لا تتفلت أو تسقط من موضعها أثناء النوم أو الحركة.. كانت رائحة البصل نفاذة وكريهة وتضايقني جدا، إلا أنها كانت في كل حال أهون لدي من المدرسة.
أخي الذي كان يفترض أن يفي بوعده، ويكتم السر وتحديداً عن أبي، أو على الأقل كان يُفترض أن لا يوافق على ما أنتوي فعله، ذهب إلى أبي وأبلغه سراً بنيتي، وبات المقلب جاهزاً لي، ووقعتُ في فخه كما يقع الأرنب البري في مصيدة الصياد، وعلى العموم هو مقلب لم أكن أتوخاه أو أتوقعه.
وعندما ناداني أبي في الصباح أن أذهب إلى المدرسة، قمتُ بالتمثيل عليه والتذرع بأنني مريض جداً، وحاولت أن أوهمه أنني لا أستطيع النهوض من الفراش بسبب شدة المرض.. تثاقلتُ وتعثّرتُ أثناء محاولتي النهوض، لوطأة المرض الذي أحاول تقمصه.
كنتُ أفترض أو أتوقع أن أبي سيهتم لأمري بمجرد أن يشاهدني مريضاً لا أقوى على النهوض وحمل نفسي.. توقعتُ أن يضع قلب كفه على جبهتي ليتأكد أنني ساخن ومحموم، أو ربما لا يهتم ويتركني أمرض بسلام يوماً أو يومين، وهو المتاح الذي بإمكاني أن أسرقه خلسة من أيام المدرسة، تقديرا للحالة المرضية التي أدّعيها، أو أبدو أمامه فيها.. ربما توقعت أن يصرخ أبي في وجهي لأن أذهب إلى المدرسة، دون أن يحملني بفعل على الذهاب بإرغام، لاسيما وهو يراني متهالكاً لا أقوى على النهوض فضلاً عن الوقوف، فيتركني ذلك اليوم بعذر المرض، ولكن الذي حدث كان صادماً لي وغير وارد في احتمالاتي..!
فبدلاً من أن يهتم أبي لأمري، أو يتركني لمرضي الذي أدّعيه، وجدته بخفة ساحر يمد يده إلى إحدى فردتي حذائه التي ينتعلها، وهوى على وجهي ورأسي صفعاً وضرباً، لأجد نفسي أنهض مذعوراً وصارخاً بأعلى صوتي، وراكضاً مثل لص تلاحقه كتيبة من الرجال تريد القبض عليه.. لقد أدركتُ من أول صفعة تقع على رأسي أنني وقعت ضحية “خيانة” قُصد منها التربية، أو الوقوع بفخ بلاغ غير كاذب.
هذه الواقعة ربما صارت عقدة في حياتي، لاسيما فيما يخامرني غالباً من شك وارتياب نحو الآخر، وربما هي السبب الذي جعلني أفشل مراراً في أي دور أتصنّعهُ حتّى وإن كان تحت إلحاح مسيس الحاجة والضرورة، وكذا أيضاً فشلي الذريع في تقمص دور أي شخصية أخرى غير شخصيتي الحقيقية وطباعها الصارخة، بل وحتّى الكذب أجد إتيانه من قبلي محل صعوبة أو استحالة، وربما لأهل الاختصاص والأطباء النفسيين في هذا رأي آخر.
تذكّرتُ هذه القصة وأنا أستمع إلى كتاب مقروء على “اليوتوب” “وعاظ السلاطين” لعالم الاجتماع العراقي الدكتور علي الوردي وهو يتحدث عن الصيغة الماكرة بين ما نعلنه للناس وما نخفيه عنهم ونضمره.. وعّاظ السلطان، وتحالف الوعّاظ مع الطغاة.. الأزمة النفسية بين الواعظ الذي يحض الناس على ترك الدنيا، ومتاعها ومغرياتها وودّه الاغتراف من مناهلها بكلتي يديه.. توظيف الوعظ المثالي في خطاب أيديولوجي وسياسي وتكفيري صارخ.. التفكير الخبيث الذي نشأ في أحضان الطغاة، وترعرع على فضلات موائدهم.. التصفيق للظالم، والبصق في وجه المظلوم.. العلاقة بين اشتداد الظلم الاجتماعي وازدياد الوعظ أكثر.. المغالاة التي يتسم بها خطاب الوعظ، وما هم عليه في حقيقة الواقع.
قصتي تلك تذكرتها وأنا أرى من يدين الجرائم التي تحدث في فلسطين ـ وهي جرائم مدانة دون شك ـ وما يقترفه حكامنا اليوم من جرائم أكثر ترويعا ًوبشاعة بحق شعوبهم، وتوظيفهم لما يحدث في الخارج لجلب شرعية ما لحكمهم، وترسيخ سلطانهم وطغيانهم على شعوبهم، وتعويض فشلهم الاقتصادي والاجتماعي، وإخفاقاتهم الشاملة والمتكررة حيال استحقاقات أوطانهم، وشعوبهم في الداخل، والهروب منها إلى إسرائيل وأميركا وغيرها من القضايا الخارجية.. توظيف واستغلال الأحداث السياسية في الخارج لخدمة أنظمتهم القمعية في الداخل. أحسست أننا بحاجة لألف حذاء، ومليون صفعة تصلح شأننا.
تذكرت قصتي تلك وأنا أرى التناقض الصارخ الذي نعيشه اليوم بين ما يُقال وما يتم فعله.. المفارقة التي أشاهدها بين الحقيقة، وما يتم ادَّعاؤه.. بين الواقع والوهم.. مزاوجة السياسة بالدين أو توظيف الدين لخدمة السياسة، أو لخدمة أجندات السلطة ومصالح وأطماع الدول.. وقد قيل ”إن السياسة ما دخلت في شيء إلا أفسدته“.
تذكرتُ قصّتي تلك وأنا أرى الدجالين المدَّعين يدّعون لأنفسهم الصلاح والتقوى والورع، ويحظُّون الناس عليها وعلى العدل والقسط، وتأكيدهم لرفض الظلم، بل والدعوة إلى مقاومته، ولكن بشرط أن يكون هذا بعيداً عن الشعوب التي يحكمونها، فيما ترتكب هذه السلطات في واقعنا وبحقنا وبحق شعوبنا كل مرعب ومروّع ومستبد.
يدينون تعصب الآخر فيما هم يمارسون العصبيات المنتنة كلها.. يتشرّبونها منذ نعومة أظافرهم.. يغرقون في وحولها، ويسقطون إلى قيعانها السحيقة، أو تهوي فيهم إلى قاع الجحيم.
يدعون إلى العلم والتفكير العميق، فيما هم في الحقيقة يشبعون مناهجنا التعليمية بالتعصب المقيت، والجهل الثقيل، ويعمدون إلى تكريسه في المؤسسات التعليمية من الروضة إلى المدرسة ثم إلى الجامعة، وقد نجحوا بالفعل في تحويل تلك المؤسسات التي يُفترض أن تكون تعليمية وعلمية، إلى ساحات ترويض وتدجين وتبليد، يطفئون بها مشاعل العقل، ويوئدون فيها التفكير الحر، ويلجمون البحث العلمي ومناهجه بألف عقال وقيد.