تجري “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) مفاوضات مع حكومة دمشق، لكن العرب، الذين يمثلون غالبية سكان مناطق قسد، غائبون عن الحوار. تاريخياً، عانت العلاقات بين قسد والمكون العربي من التهميش السياسي، مما أدى إلى عدم مشاركتهم في القرارات والسياسات. قسد، التي تسيطر على موارد المنطقة، تُمارس ضغوطاً على المواطنين العرب، ما يعزز الخوف من التظاهر أو المعارضة. بالرغم من توقيع اتفاق 10 مارس بين قسد ودمشق، يبقى دور العرب مشوبًا بالتحديات. ومع ذلك، يتشكل حراك سياسي عربي جديد، يعبر عن مدعاهم بالمشاركة الفعالة وإعادة التوازن في المشهد السياسي.
بينما تنخرط “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) في مفاوضات متقدمة مع حكومة القائد أحمد الشرع في دمشق، يتضح غياب الصوت العربي عن طاولة النقاش، رغم أن العرب يشكّلون غالبية السكان في مناطق سيطرة “قسد” وأزيد من 70% من عناصرها العسكرية، بحسب تقديرات محلية ودولية.
هذا الغياب ليس عارضاً بل هو نتيجة تهميش سياسي وإداري ممنهج منذ تأسيس “قسد” بدعم أمريكي في عام 2013، كما تؤكد شخصيات عربية.
ولم يتحول العدد الكبير للعرب إلى شراكة حقيقية في مراكز القرار أو في صياغة السياسات، سواء داخل الهياكل القيادية لـ”قسد” أو ضمن المؤسسات المدنية التابعة لها.
مع تصاعد الصوت الكردي بعد سقوط النظام الحاكم ومدعاتهم بحكم فدرالي أو لا مركزي، وفي ظل دخول “قسد” -بمظلتها العسكرية والسياسية- مرحلة جديدة من المفاوضات مع الدولة السورية، يتساءل الكثيرون: ما هو سبب غياب العرب عن المفاوضات والترتيبات المقبلة؟ وهل ستمثل هذه التطورات فرصة لتغيير واقع التهميش المستمر منذ سنوات؟

أين وصلت المفاوضات بين دمشق وقسد؟
بعد نحو 3 أشهر من توقيع اتفاق 10 مارس/آذار بين القائد السوري أحمد الشرع وقائد “قسد” مظلوم عبدي، دخلت المفاوضات بين الطرفين مرحلة جديدة تتميز بالهدوء السياسي ومحاولات محدودة على الأرض لتنفيذ مضامين الاتفاق.
في اجتماع رسمي عُقد في دمشق مطلع يونيو/حزيران، نوّه رئيس اللجنة المختصة بتنفيذ الاتفاق، العميد زياد العايش، في تصريحات صحفية، التوصل إلى تفاهمات أولية حول ملفات المنظومة التعليمية وعودة المهجرين، وتفعيل اتفاقات محلية في حيي الشيخ مقصود والأشرفية بحلب، مشدداً على التزام الطرفين بالحوار البنّاء.
غير أن هذه الأجواء التفاؤلية لا تعكس، بحسب الباحث الكردي علي تمي المطلع على المفاوضات، حقيقة ما يجري خلف الكواليس، ويقول إن “قسد تمارس سياسة شد وجذب، وتستغل الوقت لإعادة ترتيب أوراقها ميدانياً”، مشيراً إلى وصول المئات من كوادر قنديل (حزب العمال الكردستاني) إلى الحسكة، بالإضافة إلى عناصر أمنية من النظام الحاكم السابق، مما يُعد “تحضيراً محتملاً لصدام مستقبلي”.
ويلفت الباحث تمي إلى أنه لا يعتقد بإمكانية تنفيذ البنود الجوهرية من الاتفاق، مثل تسليم سد تشرين أو إطلاق سراح الأسرى، ويعتبر أن “قسد تستخدم لغة التفاهم لكسب الوقت فقط، بانتظار انتهاء المرحلة الانتقالية، حيث ستتسنى لها البحث عن ثغرات للانقلاب على التفاهمات”.
بينما تُصرّ دمشق على “وحدة المؤسسات” وتأنذر من أي صيغة فدرالية، يتمسك عبدي بـ”ضمانات دستورية” قبل التنفيذ الكامل للدمج، مما يجعل الاتفاق الحالي إطاراً هشاً لإدارة الخلاف، أكثر من كونه أساساً لحل دائم.
وقد شدد عبدي في لقاء صحفي أواخر مايو/أيار على أن التحول السياسي الكامل يحتاج إلى ضمانات دستورية تحفظ حقوق المكونات، ويُشير إلى أن “قسد” مستعدة للانخراط في العملية السياسية عندما يتم تحقيق الاستقرار وتثبيت الاتفاقات.
الصوت العربي بين الغياب والتغييب
خلال التحولات السياسية والعسكرية في سوريا بشكل عام، وفي شمال شرق سوريا بشكل خاص، يبدو أن الغالبية العربية في هذه المناطق غائبة عن المشهد، رغم كونها تشكل الأغلبية الديمغرافية والقتالية لقوات سوريا الديمقراطية.
بينما يتفاوض الأكراد باسم “قسد” ويؤكدون التزامهم بـ”الضمانات الدستورية” والـ”حكم اللامركزي”، لا يُسمع صوت مشابه من العرب في تلك المناطق، على الرغم من اقتصار الوجود الكردي على محافظة الحسكة وريفها، وغيابه عن محافظة دير الزور، مع وجود محدود في الرقة، وهي المحافظات الثلاث الخاضعة لسيطرة “قسد”.
فيما يعود غياب هذا الدور إلى ما يصفه الباحث المتخصص في شؤون الجزيرة السورية، مهند الكاطع، بـ”الوحشية التي تتعامل بها قسد مع المدنيين”، مضيفًا أن “قسد” ترتكب انتهاكات جسيمة في السجون، لا تقل فظاعة عن تلك التي ارتكبها النظام الحاكم في سجون صيدنايا، بما في ذلك عمليات اغتيال وتعذيب دون مراقبة، بالإضافة إلى شبكة من الجواسيس والمخبرين.
وقد واجهت “قسد” بعنف انتفاضة عشائرية في ريف دير الزور الشرقي عام 2023 للمدعاة بإنهاء التهميش، مما أسفر عن قتلى وجرحى واعتقالات لمئات من أبناء المنطقة.
كما وثقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان -في بيان لها بتاريخ 27 مايو/أيار- احتجاز “قسد” لما لا يقل عن 47 شخصاً في محافظتي دير الزور والرقة خلال الفترة من 15 إلى 25 من الفترة الحالية ذاته.
وفي أحدث التجاوزات التي أبلغ عنها ناشطون محليون، أكّدت شبكة “نهر ميديا” مقتل 4 أشخاص في مايو/أيار الماضي على يد “قسد” ومسلحين مجهولين في دير الزور، حيث تشهد المنطقة فوضى أمنية وحالات اغتيال شبه يومية.

قسد وتفتيت الأغلبية العربية
على الرغم من تصريحاتها المستمرة حول تمثيل جميع المكونات، تتبع “قسد” منذ بدء سيطرتها على مناطق شرق الفرات نهجًا للتفوق على المكون العربي وتفكيك بنيته الاجتماعية والسياسية، إذ تُعتبر هذه العملية منهجية تهدف إلى تهميش الأغلبية السكانية من خلال مزيج من القمع العسكري، واستغلال الموارد، واختراق الهياكل القبلية، مما أدى إلى تغييب تمثيل حقيقي للعرب.
في هذا السياق، صرح الشيخ مضر حماد الأسعد، رئيس المجلس الأعلى للقبائل والعشائر السورية، بأن “قسد” فرضت سيطرتها بالقوة العسكرية عبر الترهيب والترغيب، إذ استخدمت الأموال لإغراء بعض شيوخ القبائل وقدمت لهم الدعم السياسي والاجتماعي، بينما تجاهلت الآخرين، مما أدى إلى انقسام اجتماعي عميق داخل المواطنون العربي.
يضيف الأسعد -في حديثه للجزيرة نت- أن الدعم الخارجي (من الولايات المتحدة وإسرائيل وإيران) وفّر لـ”قسد” غطاءً سياسياً وعسكرياً بعدما استولت على النفط، الغاز، والثروات الزراعية والحيوانية، بالإضافة إلى تنفيذ حملات تجنيد قسري تضمنت اختطاف القاصرات وتجنيد الأطفال.
وتؤكد شهادة الأسعد ما ورد في تقرير منظمة هيومن رايتس ووتش في يناير/كانون الثاني 2025، حيث وثق استمرار “قسد” في اعتقال النشطاء السياسيين وتجنيد الأطفال عسكريًا، رغم التعهدات بوقف هذه الممارسات.
كما لفت التقرير إلى تصاعد التوترات شرق محافظة دير الزور، حيث نفذت “قسد” مداهمات أدت إلى وقوع ضحايا من المدنيين.
من جهته، يرى الباحث في شؤون الشرق السوري، سامر الأحمد، أن “قسد” تمارس تضييقًا أمنيًا منهجيًا ضد الشخصيات العربية المؤثرة، من وجهاء العشائر إلى النشطاء المستقلين، حيث تعرض الكثير منهم للاعتقال أو التهديد بسبب آرائهم المخالفة لخطابات “قسد”.
وقد نتج عن هذا، حسب حديث الأحمد للجزيرة نت، فرض هيمنة أمنية خانقة وإقصاء المكونات المحلية عن إدارة مناطقهم، مما أدى إلى خلق بيئة من الخوف والانكفاء، دفعت العديد للتزام الصمت أو الهجرة أو الانسحاب من الحياة السنةة.
استعادة الدور العربي بعد سقوط النظام الحاكم
عقب توقيع اتفاق 10 مارس/آذار بين القائد أحمد الشرع وقائد “قسد” مظلوم عبدي، شهدت مناطق الجزيرة السورية احتفالات واسعة، مُعتَبرا اتفاقًا يُعتبر بارقة أمل لتعزيز الدور العربي في شرق البلاد وجعل صوتهم مسموعًا بعد سنوات من الإقصاء.
ومع مرور الوقت، بدأ العرب يشعرون بتزايد فرص المشاركة السياسية والاجتماعية، على الرغم من التحديات الداخلية واختلاف الآراء بين الشخصيات العشائرية المستفيدة من الوضع الراهن وتلك التي تدعا بتمثيل أوسع وأكثر شفافية، ليصبحوا فاعلين في رسم مستقبل مناطقهم في سوريا الجديدة.
ولم تعد التحركات العربية المعارِضة لهيمنة “قسد” محصورة في مناطق شرق الفرات، بل توسعت لتتشكل تجمعات وتيارات سياسية تمثل أبناء الجزيرة والفرات، معبرة عن رفضها لسياسات “قسد” ومشروعها الانفصالي، بينما تساند الدولة السورية الجديدة، وفقًا لما لفت إليه الباحث مهند الكاطع للجزيرة نت.
من بين أبرز هذه التشكيلات، تجمع أبناء الجزيرة (تاج)، وحركة دحر، وحركة الثامن من كانون الأول في دير الزور، وتجمع أبناء الرقة، وتجمع أبناء دير الزور (تآزر)، وتجمع الشرق، إضافة إلى عدد من اللقاءات والفعاليات التي تدعا بوضع حد لظواهر التفرّد والتهميش، واستعادة سلطة الدولة على كامل الجغرافيا السورية.
بدوره، ذكر هاشم الطحري، الناطق باسم مجلس التعاون والتنسيق في الجزيرة السورية، أن الكتل والتيارات السياسية الممثلة للعرب في شرق الفرات، خصوصًا تلك الموجودة خارج مناطق “قسد”، تنظر بإيجابية إلى المرحلة الجديدة التي تمر بها سوريا، حيث تسود قناعة بأن البلاد بدأت تحت قيادة ترغب في حل قضايا شرق الفرات بالطرق السلمية، حفاظاً على الدم السوري ووحدة الدولة.
ولفت الطحري في حديثه للجزيرة نت إلى أن القوى السياسية والعشائرية، في داخل وخارج المحافظات الشرقية، بالإضافة إلى مجموعة من الفصائل العسكرية، في حالة استعداد دائم لكافة السيناريوهات، بما في ذلك استخدام القوة كخيار أخير بعد استنفاد كافة الحلول السلمية.
شهدت مناطق شمال شرق سوريا منذ سقوط النظام الحاكم مظاهرات تدعا بدخول قوات السلطة التنفيذية السورية، لكن “قسد” واجهت الحراك الشعبي الرافض لوجودها بقمع أسفر عن مقتل 5 أشخاص في الرقة و11 شخصًا في دير الزور، وفق شبكات محلية، إضافة إلى فرض حالة الطوارئ وتنفيذ حملات اعتقال واسعة، مما زاد من حالة الغليان الشعبي في هذه المناطق.