تجري مفاوضات بين سوريا وإسرائيل في عدة عواصم، وتثير تساؤلات حول ما إذا كانت تهدف إلى ترتيبات أمنية أو اتفاق سلام شامل. هذا يأتي في إطار جهود أمريكية لإعادة هيكلة المنطقة، وسط تزايد نفوذ الصين. تبرز الولايات المتحدة الأهمية الاستراتيجية للشرق الأوسط كمعادلة لمواجهة الصين. رغم نفور إسرائيل من عملية سلام مع سوريا، تسعى دمشق للبحث عن فرص للاستقرار. وعلى الرغم من الاهتمام بالاستقرار، فإن العراقيل مثل اختلال توازن القوى وعدم نضوج الظروف تجعل من الصعب توقع اتفاق سلام قريب، مما يدفع الأطراف نحو ترتيبات أمنية بدلًا من ذلك.
لم يعد سرًا أن هناك مفاوضات جارية بين سوريا وإسرائيل في عدة عواصم. ولكن يبقى التساؤل، هل تقتصر هذه المفاوضات على ترتيبات أمنية مرتبطة بالوضع بعد الحرب نتيجة احتلال إسرائيل شريطًا واسعًا من النطاق الجغرافي في جنوب سوريا، أم أنها بداية لاتفاق سلام شامل، في ظل الجهود الأمريكية لإعادة تشكيل المنطقة عبر تقليل بؤر التوتر، مما يتيح لها تشكيل الواقع الإقليمي بما يتناسب مع رؤيتها لدورها العالمي في المستقبل؟
السياق والتوقيت
تأتي المفاوضات بين دمشق وتل أبيب، التي يمكن تسميتها بـ”مبادرة التهدئة”، كجزء من سياق أوسع يتضمن تحولًا استراتيجيًا أمريكيًا وغربيًا للحفاظ على دور فاعل في ضبط الأحداث الدولية والتأثير في اتجاهاتها المستقبلية، خاصة مع بروز الصين كلاعب رئيس في الساحة الجيوسياسية، مما يهدد النفوذ الغربي.
وقد أظهرت التطورات أن الساحة الشرق أوسطية تحتوي على مصالح أمريكية توازي، إن لم تتفوق على مصالح واشنطن في جنوب شرق آسيا، حيث تم استثمار موارد ضخمة. وتعتبر مواجهة الخطر الصيني مسألة لا يمكن تحقيقها بترك فراغات كبيرة، الأمر الذي يبرز أهمية الشرق الأوسط في هذه اللعبة الجيوسياسية التي تهدف إلى تحقيق نفوذ عالمي.
وبذلك، وفي ضوء توازن القوى العالمي الجديد، وبعد أن قامت التقنية الصينية بتقليص الفوارق، تجد إدارة ترامب نفسها مضطرة للبحث عن آليات جديدة لضمان استمرار التفوق، وهو ما تنوّه من خلال زيارة ترامب لدول الخليج العربي ومواقفه الإيجابية تجاه مصالحهم، حيث تمثلت الأولوية في دعم سوريا.
ورشة مفاوضات
هناك ما يمكن وصفه بـ “ورشة مفاوضات” انطلقت في عدة عواصم إقليمية ودولية: أبو ظبي، وباكو، وتل أبيب، وغيرها. يبدو أن ما يجري حتى الآن هو مرحلة تعارف بين المفاوضين، حيث يقدم كل طرف أطروحاته التي غالبًا ما تكون بخطوط عريضة، يتم لاحقًا تعديلها لتتوافق مع المنطق والواقع. لم يتم تسريب الكثير حول ما يجري خلف الكواليس، لكن هناك مؤشرات على انطلاق المفاوضات، مثل توقف القصف الإسرائيلي والانفتاح الأمريكي المتزايد على دمشق.
لا يعني ذلك أن الأمور تسير بسلاسة، بل يشير إلى ضرورة خلق بيئة مناسبة للمفاوضات، تبدأ بتهدئة الميدان ووقف الهجمات الإعلامية. لقد شهد الخطاب السياسي تجاه الإدارة السورية الجديدة تحولًا، من دعوات لعدم الثقة إلى تأكيدات بعدم التدخل.
من الطبيعي أن تركز هذه المرحلة على الملفات الاستقرارية، وأن يقود الحوار مختصون في الأمور الاستقرارية، مما يجعل المفاوضات تأخذ طابعًا تقنيًا خالصًا بعيدًا عن الأيدولوجيا. بين البلدين تاريخ طويل من الترتيبات الاستقرارية التي كانت تُحدث مع كل تطور، وآخرها المنطقة العازلة التي تم التوصل إليها بعد حرب أكتوبر 1973.
حاجة دمشق للسلام
مع وصول الإدارة الجديدة للسلطة في دمشق، تم الإعلان عن أن الاستقرار والسلام يشكلان أولوية عالية، ولا تنوي سوريا لعب لعبة المواجهة التي دخل فيها نظام الأسد. لقد أدركت إدارة الشرع جيدًا التحول في المزاج الإقليمي الرافض للحروب، وتحاول التكيف مع هذه المتغيرات.
ومع ذلك، فإن متطلبات المرحلة، والحاجة للخروج من واقع معقد للغاية، دفعت دمشق للبحث عن فرصة للسلام هربًا من وضع اقتصادي متدهور وعزلة دولية. تدرك دمشق أنها مرتبطة بتحولات إقليمية أكبر، مما يجعلها مضطرة للعب تحت هذه الظلال.
وبالتالي، فإن دمشق رأت في الانخراط في الهندسة التي تقوم بها واشنطن بالتنسيق مع الفاعلين الإقليميين فرصة للخروج من دائرة التهميش، إذ لا يمكن تحقيق الاستقرار بجوار كيان يمتلك ناصية المنطقة.
إسرائيل والسلام بالإكراه
ليست هذه اللحظة المناسبة بالنسبة لإسرائيل للانخراط في عملية سلام مع سوريا، فالمزاج الإسرائيلي والنخب المؤثرة لا تميل للمضي قدمًا في هذا المسار. تفكر إسرائيل في قضايا أخرى، حيث استيقظت على واقع استراتيجي مختلف لم تعرفه من قبل، ولا حتى بعد حرب 1967.
الطموح الإسرائيلي في سوريا أبعد من مجرد سلام قد يتم التراجع عنه، حيث تسعى إسرائيل لصناعة كيانات موازية للدولة السورية، مما يدفع دمشق إلى التخلي عن مدعاها بالأراضي المحتلة.
لكن هناك تطور مفاجئ تمثل في موقف تركيا ودول الخليج من التغيير في سوريا، مما دفع واشنطن إلى احتضانه كأمن قومي أمريكي، مما أثار ريبة إسرائيل من احتمال تهميشها في الترتيبات الإقليمية.
هل الصفقة وشيكة؟
استنادًا إلى هذه المقدمات، فإن ما يجري بين دمشق وتل أبيب ليس مفاوضات سلام نهائية، بل هو حوار لتوافق على إطار أمني جديد، مع عدة عوامل تؤكد هذا:
- اختلال توازن القوى بشكل كبير يمنع دمشق من الذهاب إلى مفاوضات سلام تحتاج لأوراق تؤثر على إسرائيل.
- تحتاج الإدارة السورية الجديدة إلى وقت أطول لاتخاذ خطوة عقد اتفاقية سلام، في ظل عدم وضوح الصورة.
- لا ترى إسرائيل أن الاستقرار يتطلب سلامًا يجبرها على التنازل عن الجولان.
- الجهات الراعية للنظام السوري تدرك أن الظروف غير ناضجة لاتفاق سلام، مما يستدعي التوصل لترتيبات أمنية لضمان الهدوء.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.