أشار الأخ الدكتور سعيد اليافعي في منشور له إلى قصة “نجاح الدكتور أمير غالب”، الذي غادر اليمن إلى أمريكا قبل 26 عامًا، واجتاز تحديات كبيرة ليعمل في مهن متواضعة قبل أن يصبح طبيبًا. لم يقف طموحه عند هذا الحد، بل وصل إلى منصب حاكم مدينة في ولاية متشجن، ثم عُين سفيرًا لأكبر دولة في العالم لدى إحدى دول الخليج، “رغم أصوله اليمنية وكونه متزوجًا من يمنية”. نجاح الدكتور أمير غالب يعود إلى كفاحه، وإلى بيئة غربية منحته فرصًا حقيقية دون تصنيفه كمواطن من الدرجة الثانية، وهذا هو سر تفوّق المجتمعات الغربية التي تجذب الكفاءات كالمغناطيس. في المقابل، يلفت الدكتور سعيد اليافعي إلى واقع مرير في اليمن بحديثة انه “في مأرب، مُنحت طفلة مولودة لعائلة نازحة في مأرب منذ 2011 شهادة ميلاد مكتوب فيها “تعز” مكان الميلاد ، في إشارة ساخرة منه إلى خوف البعض من أن تصبح هذه الطفلة عمدة لإحدى ضواحي مأرب بعد عشرين عامًا. الدكتور سعيد اليافعي صديق عزيز، افهم مايقصد برسالته وهي الامراض العنصرية التي تصنف ابناء اليمن يجب ان تنتهي لانها لاتدمر الفرد وانما المجتمع والفرص ولعقود.
وبدوري هنا اجد هناك الكثير من هم بكفاح الاخ الدكتور أمير غالب وأذكر هنا طارق الوزير، السياسي الألماني من أصول يمنية، الذي أصبح نائب رئيس وزراء ولاية هسن، مساهمتها بـ351 مليار يورو سنويًا في الاقتصاد الألماني (ما يعادل دخل مصر و15 ضعف دخل اليمن). وهو أحد مهندسي نقل القطاعات المصرفية من بريطانيا إلى فرانكفورت بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي. طارق الوزير وصل الى ماوصل اليه “رغم أصوله اليمنية وكونه متزوجًا من يمنية”. هذان المثالان يجسدان إمكانيات العقول المهاجرة اليمنية حيث ” اليمني كالغيث أينما وقع نفع” والسبب البيئة الخارجية التي تتيح للانسان ان يرتقي بعمله وقدره ويصنع وجه اخر لليمن بعمله اينما كان.
اليوم اجد فرصة لمراجعة امراضنا الداخلية، فسياسات الإقصاء هي السبب للصراعات والانهيار الوطني، والتي ارد البعض ايضا ان يؤصلها بمسوغات دستورية في اثناء “الحوار الوطني”، حيث صُوّت وقتها على اعتبار اليمني المغترب خطرًا، ووُضعت شروط تُقصي من المناصب العليا من يحمل جنسية أجنبية أو ينحدر من ام غير يمنية، أو حتى متزوج من أجنبية، مُصنفين كمواطنين من الدرجة الثانية.
ورغم محاولاتنا التواصل وقتها لنشرح لهم حجم الكارثة من سلوك ذلك وانه
بهذه الخطوة، سوف يجهض حلم الدولة المدنية القائمة على المواطنة المتساوية، و يغلق الباب أمام استقطاب العقول المهاجرة. وبهذا القرار، نكون قد أضعنا أقوى رصيد لليمن وهم المغتربون، الذين يمتلكون قوة مالية تُقدَّر بأكثر من 100 مليار دولار، كان بإمكانها إنعاش اقتصاد الوطن لو وُجدت رؤية لربطهم وتشجيعهم للارتباط ببلدهم. فهؤلاء، الذين بنوا مجتمعاتٍ في الخارج وصعدوا إلى قمم الإبداع والريادة، لن يقبلوا أبدًا أن يكونوا مواطنين من الدرجة الثانية في وطنهم، أو أن يواجهوا ممارسات عنصرية تُذكِّرهم بأنهم “غرباء” في بلادهم. وبهذه القرارات، نكون قد أقصينا – دون وعي – الآلاف من من النخب اليمنية الحقيقية في الخارج، ممن تبوَّأوا مواقع ريادية في مجالات العلوم والتكنولوجيا والاقتصاد وإدارة الأعمال، وحازوا احترام من حولهم في مراكز الأبحاث والشركات العملاقة والجامعات. هؤلاء قادرون على تحويل اليمن من دولةٍ مُنهَكة إلى منصةٍ لاستقطاب الخبرات، لو وجدوا بيئةً تُقدِّر كفاءاتهم بدلًا من تصنيفهم كـ”مواطنين ناقصي الولاء لانهم يحملون جنسيات اخرى او متزوجون من غير يمنيات”. وبهذا القرار أيضًا، نكون قد فجَّرنا كل الجسور التي كان يمكن أن تربط اليمن بالعالم عبر استثمار طاقات أبنائه المهاجرين، الذين يحملون في دمائهم غنى الثقافتين والمنهجين، ويستطيعون نقل المعرفة وبناء شبكاتٍ خارجية تُحوِّل الرأي الدولي لصالح اليمن، كما فعلت تركيا ودول شرق آسيا. لكننا اختارنا أن نُحوِّل التنوع إلى نقمة، والهجرة إلى لعنة، بدلًا من استغلالها كقوة ناعمة. فالبلد الذي يُصادر حقوق أبنائه لمجرد أنهم اختاروا العيش في الخارج، أو تزوجوا من غير اليمنيين، لن يكون مغناطيسًا جاذبًا للاستثمار أو التنمية، بل سيصبح سجنًا لأحلام أبنائه، ونموذجًا مشوهًا للعنصرية والتخلف في عصرٍ تتسابق فيه الدول لاستيراد العقول وبيع الجنسيات للمبدعين.
لكنهم بسبب الهرجلة في الحوار الوطني والفوضى انتصرت تلك الرؤية بصدور منصوص قرار رقم 45 في المسودة، الذي اشترط في مسودة الدستور القادم أن يكون المرشح للمناصب العليا من أبوين يمنيين، وغير متزوج من أجنبية، ولا يحمل جنسية أخرى. المناصب العليا يقصد مدير عام فمافوق كما ورد. بل ذهب البعض إلى ترويج أفكار عنصرية مفادها أن من تزوج أجنبية او امه اجنبية حتى وان كانت عربية او من يحمل جواز سفر بلد اخر انه يحمل “جينات خيانة”، وسوف يبيع أسرار الدولة، متناسين أن اليمن في نهاية القائمة بين البشر في مؤشرات التنمية والتعليم والصحة والخدمات ومكافحة الفساد والحوكمة وغيره .
والأمر الأكثر سخرية أن من صاغوا تلك النصوص العنصرية في الحوار الوطني يبحثون اليوم عن إقامات وجنسات في الخارج. ومن حاولوا تبرير تلك القرارات العنصرية في الحوار الوطني بقولهم: “نمرر اليوم النص اي النص العنصري، ونعدل الدستور لاحقًا”، باتوا يعرضون خدماتهم للخارج دون أن يُقبل منهم أحد. والعبرة ان العنصرية لا تدمر صاحبها وانما تدمر مجتمع ولعقود قادمة.
اليوم، تدفع اليمن ثمن هذه السياسات الطائشة والقرارات الارتجالية. فقدان النخبة والكفاءات، وتدمير الاقتصاد، وانهيار القرار السيادي تحت سيطرة الخارج بموجب الفصل السابع هو ترجمة للفشل الذي تم نهجه. حتى الحكومة اليمنية باتت عاجزة عن تقديم حتى بيانات أو حلول، وتعتمد على أرقام “من الرأس ومجالس القات” أو ما يُملى عليها من الخارج. اليوم علينا ان نتعلم ان الدول المتقدمة، من الغرب وحتى الشرق واخيرا المملكة او الإمارات، تبحث عن الكفاءات أينما وجدت، وتمنحها الجنسية لتعزيز طموحها. بينما اليمن لازالت، بعقلية “العنصرية المريضة”، حوّلت نفسها إلى دولة فاشلة ومُستبعدة من عجلة التقدم وحتى الفيدرالية فهمنا بشكل عنصري، ولازالت تُدار الدولة بمنطق المحاصصة العائلية والصداقة والانتماء الضيق، لتظل اليمن أسيرةً لعقود قادمة من التخلف والتبعية والفشل.