تمضي سنة 2022 حاملة معها الأسئلة الوجودية التي شغلتها وظلت بلا أجوبة، إلى السنة 2023 التي ستطرح بدورها أسئلة قد تظل بلا أجوبة. سنة تلو سنة، تتأجل الأجوبة وتتراكم، في انتظار مستقبل مفترض بات يشبه المستحيل. من كان ينتظر الحرب الروسية الاوكرانية التي أطلق صفارتها رجل يدعى بوتين، فعاثت خراباً تخطى الدولتين إلى العالم أجمع، ومنه العالم العربي؟ من كان ينتظر أيضا الثورة الناعمة التي اندلعت في ايران ضد نظام الملالي وتمكنت من أن تهزه في عمقه وأن تترك أثراً في عالمنا العربي؟ كان متوقعا ربما ان تتسع خريطة او خرائط الحروب والمواجهات في اصقاع عدة من الارض، ومنها العالم العربي ودول مثل سورية وليبيا واليمن وفلسطين، عطفا على المناطق المتاخمة للحدود التركية والايرانية؟
من كان ينتظر مثل هذا الخراب المتسارع في كل الميادين، خصوصاً ميدان الحياة اليومية بتفاصيلها الصغيرة جداً؟ لا شك في أن هذا العالم الذي أصبح “قرية” عملاقة، عشية انطلاق العولمة التي زادته اضطرابا، لم يتمكن من فهم هذا الخراب المتسارع، على رغم وضوحه، لكنه دفع أثمانه الكثيرة والباهظة، وما برح يدفعها وسيظل.
أحوال التفكك
معروف ان عالمنا العربي الغارق في أحوال التفكك والإضطراب، لم تكن تنقصه مثل هذه الحرب “العالمية” والمواجهات التي تدور في فلكها . فبعض البلدان العربية التي تعرضت لما يشبه الإنهيار قبل أعوام ما فتئت مآسيها تتفاقم، مالياً واجتماعياً وأمنياً وثقافياً. والخشية كل الخشية، ألا تتسع خريطة الإنهيار وتتجاوز الخطوط المرسومة، في معنى أن يستحيل الفقر إلى مجاعة شاملة، والامن المهدد الى “فلتان” أمني وفوضى عارمة، والبؤس إلى واقع مأساوي.
قد لا يكون في مثل هذه المقدمة حافز على المزيد من اليأس والتشاؤم، فالحياة الثقافية خصوصاً في العالم العربي، لا تنفصل عن الواقع السياسي المتردي والذي يزداد تردياً. ليست الغاية هنا التحدث في السياسة، ولا في ظروفها وأحابيلها وتحولاتها الصاعقة، بل الهدف استرجاع حياة ثقافية عاشتها او شهدتها سنة بكاملها. والثقافة لا تنفصل اصلاً عن السياسة ولا عن الإقتصاد ولا عن الجغرافيا…
سنة ثقافية تمضي وأخرى تقبل، مثلما مضت سنة من قبل وأقبلت سنة ثم مضت. ترى هل تكفي الأشهر الاثنا عشر لصنع ثقافة تختلف بين سنة وأخرى؟ هل تُقرأ الحال الثقافية عبر تعاقب السنوات أم عبر الظواهر التي تترسخ طوال فترة زمنية لا يحصرها تقاطع الأشهر أو السنين؟
الثقافة حركة لا تنقطع، إنها تكمل نفسها بنفسها، غير عابئة بما يسمى زمناً. وقد يكون حصاد سنة هو من زرع سنة سابقة أو سنتين أو ثلاث. فالسنة حيز ضئيل نظراً الى الفعل الثقافي الذي يتخطى تخوم الأشهر والاعوام .ولو عدنا إلى نتاج سنة، فقد يشكل علينا تداخل هذه السنة في السنة السابقة، خصوصا أن بعض الأعمال تُنجز في الأشهر الأخيرة التي تتاخم الأشهر الأولى من السنة الآتية .
سنون تتوالى
غير أننا مع مضي السنة 2022 ومجيء السنة 2023 نسأل أنفسنا: ماذا قرأنا خلال سنة شهدت وتشهد “كوارث” عالمية رهيبة ومآسي عربية عاشتها وتعيشها بلدان مثل سورية ولبنان والعراق واليمن وليبيا وفلسطين؟ أي حركة ثقافة شهدنا في بلدان تكابد حروباً أو معارك، وأحوالاً من الإنهيار الإقتصادي والمالي والسياسي والاجتماعي؟… ناهيك عن الفقر المدقع الذي يهدد مناطق وجماعات، وكذلك الجوع الذي يكاد يصبح “مجاعة” في مناطق وأقاليم وفي مخيمات النازحين والمهجرين… ماذا شاهدنا من مسرحيات وأفلام وأعمال فنية؟ ماذا تابعنا من ندوات ومؤتمرات ثقافية أو أدبية؟ كيف بدت نهضة معارض الكتب من كبوة زمن كورونا؟ ما أحوال الإبداع العربي في الداخل عموماً؟ ما أحوال الإبداع في المنافي العربية التي صارت أوطانا مؤقتة وربما دائمة؟
كل هذه الأسئلة تُطرح عند نهاية سنة وبداية سنة أخرى. أسئلة لا بد من طرحها لنشعر أن الزمن يتقدم فنطمئن، على رغم الشك الخفي الذي يساورنا.
مع التشاؤم
قد لا يحق لنا أن نتشاءم في مطلع السنة الجديدة، على رغم بعض التقارير غير السارة التي تُرفع عن أحوال العالم العربي على كل المستويات، والتي تدعو الى شيء من التشاؤم. فالأرقام لا تشجع ولو أنها تشمل دولاً عربية دون اخرى. وإن كان اليأس لا يجدي، لا سيما في مستهل سنة جديدة، فإننا سنتفاءل، كيفما كان لنا أن نتفاءل. فالثقافة تغدو أداتنا الوحيدة الآن لكي نتمسك بخشبة الانقاذ فلا نغرق! الثقافة كصناعة فردية أو جماعية، وحتى كصناعة رسمية في بعض الدول التي تمكنت من كسر ما كان يسمى “المركزية” الثقافية وألادبية. وأصلا لم يعد قائما الكلام عن “مركزية” ثقافية عربية في زمن الإنترنت وعصر وسائل التواصل الإجتماعي والتطور التقني. كان معرض بيروت للكتاب في طليعة المعارض العربية تبعاً لعراقته ولما يتنعم به من حرية، فلا رقابة ولا منع، وكانت دور النشر العربية تجد فيه منبراً فريداً، وكذلك الكتاب والشعراء والمفكرون العرب. اليوم بات معرض بيروت من أضعف المعارض العربية لافتقاره إلى التطور التكنولوجي والمعلوماتي ولانغلاقه أمام التطورات الحديثة في عالم النشر والنشرالالكتروني خصوصاً. اليوم بات معرض مثل معرض الرياض للكتاب او معرض الشارقة وابوظبي في مرتبة المعارض الدولية نظراً للتطور السريع الذي طرأ عليها، تقيناً ومعلوماتياً وانفتاحاً على حداثة عالم النشر. طبعاً الدعم الرسمي يؤدي هنا دوراً رئيساً، على خلاف المعارض العربية العريقة الأخرى التي لا تلقى الدعم المفترض.
سنتفاءل مادامت الثقافة تعني ما تعني من نضال ومجاهدة وكفاح من أجل الحرية وتحقيق الذات والحوار، ومن أجل الصعود من الدرك الذي وقعت فيه الدول العربية المحاصرة سواء بالمعارك والحروب او بالتراجع أو الانهيار المالي والإقتصادي والإجتماعي.
سنتفاءل ما دام أهل الثقافة والأدب والفن يصنعون حياة أخرى على هامش الحياة المنهكة والمشتتة والمأسورة! سنتفاءل ما دمنا قادرين أن نقول :لا، ولو بصوت قد لا يسمعه إلا نحن والقلة القليلة التي ما برحت تبالي بمثل هذه الكلمة.
هل يمكننا أن نتصور كيف ستكون السنة المقبلة؟ إذا نظرنا إلى السنة التي تمضي، قد لا نجد أنفسنا في حال من التفاؤل، ولكننا أيضا لن نقع في شرك التشاؤم الشديد. ما هو الحدث الأبرز ثقافياً في السنة التي نودعها؟ نتذكر، نحاول أن نتذكر ونخشى أن ننسى . فالأحداث الكبيرة تظل قابلة للنقاش مثل الأحداث الأخرى كصدور ديوان أو رواية أو تقديم عرض مسرحي أو معرض تشكيلي أو فيلم سينمائي أو عقد مؤتمر…
سنة تمضي إذاً وسنة تقبل… الحيرة تظل هي نفسها، وكذلك الأسئلة التي تؤجل الإجابة عنها، والأحلام والأوهام … ترى هل تكون السنة المقبلة مختلفة عن سابقتها؟
المصدر : اندبندينت