تواجه المدن السياحية الكبرى أزمة ما يُعرف بالسياحة المفرطة، حيث تتصاعد الشكاوى من الاكتظاظ وارتفاع أسعار السكن. في عام 2025، اتخذت العديد من المدن الأوروبية مثل برشلونة والبندقية إجراءات لتقليل الزوار، بما في ذلك فرض رسوم دخول وتقييد الإقامات. إسبانيا تعتزم تقييد الإيجارات السياحية، فيما طبقت إيطاليا رسوم دخول في مواقع مشهورة. أيضا، فرضت اليابان حدًا للزوار في جبل فوجي. هذه التدابير تهدف إلى تحقيق توازن بين احتياجات السكان وزوار المدن، مع ضرورة تفكير السياح في خيارات أكثر استدامة.
في شوارع المدن السياحية الكبرى، وعند شواطئها وعلى مقربة من معالمها التاريخية الشهيرة، بات الموقف يتكرر، طوابير طويلة وزحام، مع السكان المحليين الذين يشتكون من اختناقات المرور، وارتفاع الأسعار خاصة في إيجارات السكن.
هكذا أصبحت “السياحة المفرطة” حلقة مفرغة لأزمة عالمية تتزايد صيفًا بعد صيف. ومع تدفق غير مسبوق للمسافرين إلى أبرز الوجهات في أوروبا وآسيا، تبنت بعض المدن، من البندقية وروما إلى سانتوريني وبالي، إجراءات غير تقليدية للتقليل من الزحام في تلك الوجهات بحلول صيف 2025، سنتعرف عليها في هذا المقال.
إجراءات استباقية في إسبانيا
يبدو أن السفر إلى أوروبا هذا السنة لم يعد بالسلاسة المعتادة، إذ طالت تغييرات القوانين المحلية والضرائب بعض الدول، مما يستدعي من السياح التخطيط الدقيق ومعرفة ما ينتظرهم قبل الوصول.

وذكرت شبكة “يورونيوز” أن عدداً من الدول الأوروبية الأكثر ازدحاماً، التي تأثرت بزيادة السياح، بدأت في تطبيق مجموعة من الإجراءات الجديدة بهدف تنظيم تدفق الزوار بدلاً من منعه، لمواجهة مشكلة السياحة المفرطة.
وتعتبر إسبانيا من بين هذه الدول، حيث بدأت مدن مثل مايوركا وبرشلونة بتقييد تراخيص الإيجارات السياحية، وأوقفت إصدار تراخيص جديدة بل وألغت بعضها بأثر رجعي منذ فبراير/شباط 2024، delaying efforts لإنعاش سوق العقار المحلي.
في برشلونة، يُتوقع أن يُحظر هذا النوع من الإيجارات تمامًا بحلول عام 2028. كما بات على السياح تقديم تفاصيل عند الإقامة أو استئجار السيارات تشمل الجنسية والعنوان ورقم الجوال والبريد الإلكتروني.
قوانين صارمة في مدن إيطاليا
تُعد إيطاليا من البلدان الأوروبية الأكثر تأثراً بالزيادة الهائلة للسياح، مما دفع السلطات إلى فرض العديد من القوانين الصارمة في مدنها السياحية للحد من آثار السياحة المفرطة في صيف 2025.

كانت مدينة البندقية سبّاقة في فرض رسوم سياحية في موسم الصيف، حيث أصبحت في عام 2024 أول مدينة في العالم تفرض رسم دخول يومي على الزوار وقدره 5 يوروهات.
وبعد التجربة الأولية في ربيع السنة الماضي والتي اعتُبرت “ناجحة جزئياً”، قررت المدينة تمديد رسوم الدخول هذا السنة إلى 10 يوروهات.
حجز الزيارة مسبقًا
يطلب من زوار البندقية حجز زيارتهم مسبقًا ما بين الساعة الثامنة والنصف صباحًا والرابعة عصرًا، والحصول على رمز استجابة (QR Code) عبر الشبكة العنكبوتية، مع وجود غرامات قد تصل إلى 300 يورو للمخالفين. يُستثنى من ذلك السياح الذين يقيمون لليلة واحدة على الأقل، والسكان المحليون.
من خلال ذلك، تواصل البندقية رسم نموذج جديد لإدارة تدفق السياحة، ساعية للحفاظ على طابعها التاريخي الفريد بعيدًا عن شعبيتها العالمية.
وليس البندقية وحدها التي تسعى لمواجهة ظاهرة السياحة المفرطة؛ إذ تحدد البلديات الإيطالية رسومها الخاصة، ما يعني أن الضرائب تختلف من مدينة لأخرى.
فرض ضريبة سياحية
وفي العاصمة الإيطالية، تتراوح رسوم الإقامة الليلية بين 3 و7 يوروهات، بينما في ميلانو، تتراوح بين 2 و5 يوروهات، وفي فلورنسا بين 1 و5 يوروات.

لكن على المستوى الوطني، تُدرس السلطة التنفيذية الإيطالية خطوات لفرض ضريبة جديدة قد تصل إلى 25 يورو لليلة الواحدة في الغرف الفندقية الأكثر تكلفة. وقد صرحت السلطة التنفيذية أنها تنظر في هذه الخطوة لتحفيز السياح على أن يكونوا “أكثر مسؤولية”، ولدعم تمويل الخدمات السنةة، كجمع النفايات في المناطق المزدحمة.
كما اتخذت بلدة بورتوفينو الصغيرة إجراءات صارمة ضد تدفق الزوار الذين يعيقون الحركة لالتقاط صور سيلفي، مما أدى إلى إرباك الطرق والممرات، حيث فرضت البلدة مناطق يُحظر فيها الانتظار، مع غرامة قدرها 270 يورو لمن يبقى لفترة طويلة على الرصيف بين الساعة العاشرة والنصف صباحًا والسادسة مساءً.
مدن مثقلة بالسياح
في قلب روما، تحولت نافورة تريفي الشهيرة من معلم ساحر إلى أحد أكثر المواقع ازدحامًا في البلاد، مدفوعةً بثقافة الصور ورغبة الزوار في إلقاء العملات لتحقيق الاستقراريات، لكن هذه الزيادة لم تخلُ من تبعات.

ومع الضغط المتزايد على موقع النافورة، بدأ مجلس المدينة، بدعم من السكان وأصحاب الأعمال المحيطة، في مناقشة عدة إجراءات تنظيمية، أبرزها فرض رسم دخول رمزي قدره يوروهين، للمساعدة في إدارة الحشود وصيانة الموقع.
كما تعد فلورنسا من أحدث الوجهات التي فرضت قيودًا على السياحة الكثيفة، بسبب الضغط المتزايد على السكان القاطنين في قلب المدينة التاريخية.
إجراءات جريئة بفلورنسا
لذا، اتخذت فلورنسا مجموعة من الإجراءات الجريئة للحد من آثار السياحة المفرطة، منها حظر استخدام منصة “إير بي إن بي” (Airbnb) والإيجارات قصيرة الأجل في محاولة لتحقيق التوازن بين احتياجات السكان المحليين والمتطلبات السياحية.
كما تعهد العمدة أيضًا بحظر صناديق المفاتيح على المباني التي يستخدمها أصحاب العقارات المستأجرة لتسهيل دخول الضيوف، ومنع استخدام مكبرات الصوت من قبل المرشدين السياحيين.
وسيتم أيضًا فرض قيود على استخدام “المركبات غير التقليدية” مثل عربات الغولف، التي أصبحت شائعة لنقل الزوار في المناطق التي يُمنع فيها مرور السيارات.
وذكر بيان صادر عن مجلس مدينة فلورنسا أن هذه الإجراءات فُرضت لأن “المدينة لم تعد قادرة على تحمل هذا العدد الكبير من الأنشطة المتعلقة بالسياحة، المركّزة في مساحة لا تتجاوز خمسة كيلومترات مربعة، دون الإضرار بقيمتها التراثية وتهديد قدرتها على البقاء كمدينة صالحة للعيش”.
رسوم سياحية أوروبية
في ظل تصاعد الضغوط الناجمة عن السياحة المفرطة، بدأت مدن أوروبية أخرى اتخاذ خطوات عملية لضبط تدفق السياح، من بينها فرض رسوم دخول على الزوار. ففي إسبانيا، صرح عمدة إشبيلية عن نيته فرض رسوم على السياح الراغبين في زيارة ساحة “بلازا دي إيسبانا” الشهيرة.

وتدرس دول أخرى مثل البرتغال فرض رسوم دخول على معالمها، في خطوة تهدف إلى تنظيم حركة الزوار وتقليل الأثر البيئي والاجتماعي للسياحة المفرطة.
كما كانت الضرائب السياحية من أبرز الوسائل التي لجأت إليها بعض الدول لتخفيف الضغط وتنظيم حركة الزوار؛ ففي برشلونة، وهي الوجهة الأكثر شعبية في إسبانيا، رُفعت الضريبة السياحية البلدية إلى 6.75 يورو لليلة الواحدة للنزلاء المقيمين في الفنادق فئة خمس نجوم.
وفي اليونان، تُفرض “ضريبة مناخية” تصل إلى 10 يوروات للغرفة الفندقية في الفنادق الفاخرة، بالإضافة إلى رسوم يومية قد تصل إلى 8 يوروات، ورسوم إضافية تبلغ 20 يورو على ركاب السفن السياحية في جزر تستقطب العديد من السياح مثل سانتوريني وميكونوس.
أما أغرب ضريبة سياحية تُطبق، فهي التي تتعلق بالموقع الأثري الأشهر في أثينا “الأكروبوليس”، حيث يُحظر ارتداء الكعب العالي لحماية الأسطح القديمة من التلف، وتصل الغرامات على المخالفين إلى 900 يورو.

أما في هولندا، فقد رفعت مدينة أمستردام الضريبة السياحية من 7% إلى 12.5% من قيمة الإقامة، مما يعني زيادة تكلفة فندق تبلغ 175 يورو لليلة بواقع 21.80 يورو إضافية.
تحديد أعداد الزوار
لم تعد الإجراءات التنظيمية في أوروبا تقتصر على تقنين الإقامات أو فرض الضرائب فقط، بل تمتد لتشمل تحديد أعداد الزوار في أبرز المعالم السياحية.
ففي إيطاليا، فرضت السلطات حدا أقصى قدره 20 ألف زائر يوميًا لموقع بومبي الأثري، الذي يستقبل نحو 4 ملايين سائح خلال موسم الصيف، بواسطة نظام تذاكر مسبق للحد من الزحام.
وبالمثل، قيدت روما عدد الزوار في مبنى الكولوسيوم إلى 3 آلاف فقط في كل مرة، سعياً للحفاظ على هذا المعلم التاريخي، وفي اليونان، تم تطبيق تقييد مماثل لزيارة الأكروبوليس بحيث لا يتجاوز عددهم 20 ألف زائر يوميًا.
وقف التوسع العمراني
تواجه جزيرة بالي الإندونيسية واحدة من أبرز التحديات التي تؤثر على اقتصادها ونشاطها السياحي، حيث قررت السلطات المحلية وقف التوسع العمراني في بعض المناطق السياحية الشهيرة، بل وفرض “حظر كامل” على بناء أي فنادق، في خطوة تهدف إلى كبح جماح السياحة المفرطة التي أثقلت كاهل الجزيرة وسكانها.

في السنوات الأخيرة، تحولت بالي إلى واحدة من أكثر الوجهات جذبًا في آسيا، لكن هذا النجاح لم يأتِ بلا ثمن، إذ تفاقمت التحولات العمرانية، واستعيضت حقول الأرز التقليدية بفيلات فاخرة ونوادٍ ليلية، ما أثار سخط السكان المحليين الذين بدأوا يشعرون بأن هويتهم وثقافتهم تُستنزف بسبب رفاهية الغرباء.
ومع استمرار تدفق السياح، ارتفعت الشكاوى من ازدحام خانق في بالي، وارتفاع معدلات الجريمة، وسلوكيات لا تحترم الثقافة الإندونيسية. وفي حين تُعتبر السياحة مصدر دخل مهم للجزيرة، يرى كثيرون أن معظم الأرباح تذهب إلى مستثمرين أجانب وشركات كبرى، بينما تبقى المواطنونات المحلية على هامش العوائد.
مساعي اليابان للضبط
في خطوة تهدف إلى تقليل الآثار السلبية لكثرة السياح، بدأ منتجع “غينزان أونسن” الشهير في شمال شرق اليابان تطبيق قيود جديدة على دخول الزوار.
تشتهر هذه البلدة الصغيرة (غينزان أونسن) بجمال شوارعها المغطاة بالثلوج وينابيعها الساخنة، حيث يستقبل نحو 330 ألف زائر سنويًا، مما تسبب في ازدحام مروري حاد وشكاوى متزايدة من السكان المحليين.
اعتباراً من نهاية ديسمبر/كانون الأول 2024، يُحظر دخول المنطقة بعد الساعة الثامنة مساءً إلا للضيوف المقيمين في الفنادق المحلية، ويتطلب من الراغبين في الزيارة بين الساعة الخامسة والثامنة مساءً الحجز المسبق.
طفرة سياحية قياسية
تأتي هذه الإجراءات في وقت تسجل فيه اليابان طفرة قياسية في أعداد السياح الأجانب، مدفوعة بانخفاض سعر صرف الين، مما جعل السفر إليها أرخص من أي وقت مضى، خاصة بعد رفع قيود جائحة فيروس كورونا.
نتيجةً لإجراءات إضافية اتخذتها السلطات اليابانية، شهد جبل فوجي -الذي يُعتبر رمزًا لليابان- انخفاضًا ملحوظًا في أعداد الزوار خلال موسم الصيف الماضي.

سجلت وزارة البيئة اليابانية نحو 178 ألف زائر بين بداية يوليو/تموز وبداية سبتمبر/أيلول، مقارنة بـ 205 آلاف زائر في السنة السابق، مما يمثل تراجعًا بنسبة 14%.
تتضمن هذه الإجراءات فرض رسم دخول قدره 2000 ين (نحو 14.2 دولارًا) للفرد، وتحديد عدد الزوار ليصل إلى 4000 شخص كحد أقصى يوميًا على المسار القائد المؤدي إلى قمة الجبل.
كما أطلقت السلطات نظامًا إلكترونيًا لحجز الزيارات مسبقًا، مخصصًا عددًا محدودًا من التذاكر للبيع في الموقع يوميًا.
لا تحول جذري
على الرغم من اتخاذ عدد متزايد من المدن والمعالم السياحية إجراءات للحد من الزحام مثل فرض الضرائب، وتقنين أعداد الزوار، وشد الضوابط على الإيجارات قصيرة الأجل، فإن هذه التدابير لا تزال قيد التجربة، ولم تُحدث بعد تحولًا جذريًا، على الرغم من أنها ساهمت جزئيًا في تقليل تدفق الزوار في بعض الوجهات.

يأمل المسؤولون أن تسهم هذه السياسات في امتصاص الغضب الشعبي، خاصة بعد التظاهرات الكبيرة في مدن مثل مايوركا وجزر الكناري السنة الماضي احتجاجًا على ما وُصف بـ”الغزو السياحي”. ولكن الحقائق تشير إلى أن المشكلة تفوق أن تُحل بالرسوم فقط، حيث شهدت اليوم مظاهرات منسقة في عدة مدن في جنوب أوروبا، إذ تظاهر الآلاف ضد السياحة المفرطة في برشلونة وسبع مدن إسبانية أخرى، بما في ذلك غرناطة ومالغا وبالما وإيبيزا وسان سبستيان.
كما شهدت المدن الإيطالية مثل البندقية وجنوة وباليرمو وميلانو ونابولي مظاهرات مماثلة، بينما يُفترض أن تُنظم احتجاجات مشابهة في العاصمة البرتغالية لشبونة هذا المساء، وقد أُشرف على هذه الاحتجاجات منظمات مدنية تكتلت في تحالف “إس إي تي” (SET) وهو اختصار لعبارة “جنوب أوروبا ضد السياحة المفرطة”.
ظاهرة السياحة المفرطة
يؤكد الخبراء أن معالجة ظاهرة السياحة المفرطة تتطلب جهوداً طويلة الأجل لا تظهر نتائجها في عام أو عامين، وتشمل تطوير البنية التحتية، وإعادة توجيه التدفقات السياحية إلى وجهات أقل ازدحامًا.

ومع التزايد المستمر في أعداد المسافرين عالميًا، بات من الضروري إعطاء الأولوية للسفر الأكثر استدامة، الذي يركز على جودة التجربة، ويحترم في الوقت ذاته احتياجات السكان المحليين والثقافة المحلية.
ورغم أن فرض الضرائب والرسوم قد تكون خطوة مساعدة إذا استُخدمت عائداتها لتحسين الخدمات ودعم المواطنونات المتضررة، فإن تقنين أعداد الزوار يبقى الخيار الأكثر أهمية لضمان تحقيق توازن بين احتياجات السكان وزوارهم.
وحتى يتحقق ذلك، يمكن للمسافرين أنفسهم أن يكونوا جزءًا من الحل من خلال اختيار توقيتات السفر الأقل ازدحامًا، وتبني سلوكيات تحترم الخصوصية والثقافة المحلية.