في روايته “ظل الموت”، يستكشف الروائي الشاب أمير العجلة عدة أسئلة فلسفية حول الموت والواقع الأليم الذي يعيشه الشعب الفلسطيني، وخاصةً في غزة بعد الحرب الإسرائيلية. تحاكي الرواية معاناة النزوح والجوع والخيبة، مشددة على أن الكتابة مقاومة، تعكس الوجع والأمل رغم الظروف القاسية. يسعى العجلة لنقل قصص الألم والصمود، ويعتبرها تعبيرًا عن واقع يعاني منه الجميع. كذلك، تلقي الرواية الضوء على النساء في الحرب، كما في رواية أمل أبو سيف “أثير غزة”، التي تُبرز المواجهةات اليومية للمرأة الفلسطينية. الكتابة تصبح وسيلة لتوثيق الأمل وسط القهر.
غزة– “كيف يكون للموت ظل؟ هل نرى الموت من الأساس؟ هل هو كائن مادي يمكننا الإحساس به، بآلامه وقهره؟ هل يموت الإنسان مرة واحدة فقط؟”، تشكّل هذه الأسئلة وغيرها الموضوعات التي يتناولها الروائي الشاب أمير العجلة في روايته “ظل الموت”، التي صيغت أفكارها استنادًا إلى ما شهدته عينيه والظروف القاسية التي عايشها منذ بداية الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة بعد عملية “طوفان الأقصى” في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023.
خارج غزة، يصعب الإجابة على هذه الأسئلة، بينما في الداخل، نجد أن العجلة هو أوضح من يعبر عن الإجابات، حيث يقول (26 عامًا): “للموت ظل يتجلى فيمن خذلونا، وقد لمسناه في كل موت وقهر ومعاناة، وفي كل هجرة وطابور وقفنا فيه، وفي كل جوع، وفي كل جري تحت آلة الموت التي لا تزال تفتك بنا”.
“نحن نموت مع كل دمعة طفل، ومع كل عجز كهل، ومع كل صرخة ثكلى… ثم يأتي الموت الأكبر ليقضي على جميع معاناتنا وآلامنا”، يضيف العجلة.

ظل الموت
تتناول هذه الرواية “ظل الموت” ما لفت إليه العجلة من دموع الأطفال التي يمكنها أن تحرق العالم، وما يعانيه النازحون من قهر، وجراح الصفوف الطويلة وآلامها، والخذلان الذي نشعر به بوضوح في نظر العالم كله (..) وهنا تفهمت كيف ضاعت فلسطين وأدركت الفرق بين مصيبتنا الأولى وهذه المأساة التي نعيشها: إن نكبتنا الحالية تُصور بأحدث الكاميرات وبأعلى دقة لعالم أعمى، إما لا يرى أو يتعامى”.
وعن مفهوم هذه الرواية، التي نُشر الجزء الأول منها في 270 صفحة، ويعمل على الجزء الثاني، قال: “لا أحتاج إلى فكرة محددة في ظل واقع قاتم وظروف قاسية نعيشها.. أكتب ما يعبر عنا، أدوّن واقعنا وصرخاتنا، ألتقط الأفكار من صاروخ يمتزج غباره بماء الشاي، ومن كيس طحين يلعب الدم والأشلاء، ومن صف طويل حيث يصرخ الطفل صرخة خذلان تشق السماء ولا يسمعها أي عربي”.
ويرى العجلة: “الحكايات دائماً تبدأ من عمق الألم؛ فالألم يصنع المعجزات. تبقى قصصنا حية حتى لو غبنا، لأننا نكتبها بالروح لا بالحبر”. ويدعو: “لطالما أراد الاحتلال أن يحولنا إلى أرقام وإحصائيات في تقارير الموت، لكننا نرفض. نحن نواجه قسوة الحياة بإصرار لا يلين، ونحمل في قلوبنا ما يكفي من الأمل لتغيير الواقع”.
الكتابة مقاومة
تعتبر “ظل الموت” ليست العمل الأدبي الأول لهذا الروائي الشاب، الذي تزوج خلال فترة الحرب والنزوح عن منزله المدمر في حي الشجاعية بشرق غزة، ويصف العجلة كيف دمرت الحرب بيت أحلامه مما أجبره على بدء حياته الزوجية في خيمة تعصف بها الرياح، وصفها بوجع كأنها “قبر يحتويني وأنا حي، حيث إن الخيام هي مقابر الذين لم تقتلهم الحرب”.
لدى العجلة سابقاً رواية بعنوان “إلا أن يسجن أو عذاب”، تناول فيها معاناة الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال وما يتعرضون له من ألم وتعذيب.
كما أخرج رواية أخرى تحمل عنوان “مرفوض بالفطرة”، تركز على القضايا الاجتماعية الصعبة التي تواجه الفئة الناشئة في غزة، ومعاناتهم ومشاكلهم المتعددة في المنظومة التعليمية واختيار شريك الحياة، وتكاليفهم.. فضلاً عن أزمة الهجرة التي تعصف بالمدينة المنكوبة.
وفيما يتعلق بالكتابة في ظل الحرب والنزوح، يرى العجلة أن “المعذبين هم الأكثر قدرة على التعبير عن الألم، فلا يجد الخائف ما يهدئ قلبه سوى كلماته التي يكتبها”، مضيفاً: “إن أدب الحرب والخوف ما هو إلا نزيف لأرواحنا الذي لا يلتئم، ندوّنه على صفحات القهر والوجع، على سجلات الخذلان والآلام التي نتجرعها أمام العالم، جهاراً نهاراً دون أن يحرك أحد ساكناً”.

البداية حلم
تحدثت أمل محمد أبو سيف، شابة في العشرين من عمرها، عن حلمها الذي تجسد في رواية، حيث تقول للجزيرة نت: “روايتي وُلدت من قلب مدينة مكلومة.. مدينة تُسرق أحلامها يومياً، ورغم كل شيء ما زلنا نحب الحياة، ونسعى لتمسك بالأمل، ونعيد بناء أحلامنا من تحت الأنقاض”.
تعيش “أثير” تجربة النجاة من تحت الركام بعد غارة جوية إسرائيلية، لا تزال تسعى لتحديد وجودها في هذه الأرض. تقوم بتنظيف غبار ركام بيتها، الذي كان مليئًا بالحياة والضحكات والذكريات قبل لحظات من القصف.
فقدت “أثير” شقيقتها ومنزلها، ودفنت الكثير من ذكرياتها تحت الأنقاض، لكن ليس كل ما حصل معها كان سيئاً، فقد كانت الغارات تطاردها، متوقعة أن تتعرض لمجزرة جديدة في كل مكان تذهب إليه بحثاً عن الأمان.
“أثير” هي بطلة رواية أبو سيف (22 عاماً) المعنونة “أثير غزة”، حيث تعتبر هي الصورة الحقيقية لكل فتاة فلسطينية تعيش الرعب وصنوف الموت نتيجة الحرب.

جمعت أبو سيف في الشخصية “أثير” أنماطًا متنوعة من الآلام التي تعاني منها النساء في غزة، حيث هن الضحايا القائديات لجرائم الحرب الإسرائيلية. وقد أخذت النساء حيزاً كبيراً في رواية “أثير غزة”، وهي العمل الأدبي الأول لهذه الكاتبة الشابة.
وسط الرواية، تبرز شخصية “الخالة آمنة”، التي تعكس صمود النساء وارتباطها بأرضها ووطنها، وتجسدها أبو سيف كفلسطينية مسنّة، تتخذ تجاعيد وجهها خريطة لوطن يصارع من أجل تحرره من الاحتلال، وترفض كل استراتيجيات الهجرة.
تعتبر أبو سيف جزءاً من شخصيات روايتها، حيث تعيش في مخيم “النصيرات” للاجئين وسط القطاع، الذي يعد من أكثر المناطق تعرضاً لنيران القوات المحتلة، ويشهد مجازر مأساوية منذ بداية الحرب. وقد اضطرت أمل مع عائلتها إلى تجربة النزوح.
رغم أنها شعرت بقدرتها على الكتابة منذ طفولتها، ألهمها “وحي الكتابة” لتأليف روايتها الأولى خلال الحرب، رغم الضغط الكبير من الظروف الحياتية.
تقول أمل: “كتبت أثير غزة كإفراغ لما في قلبي، واحتجاجًا صامتًا ضد واقع لا يحتمل”، وتضيف بعزيمة كبيرة: “لا يجب أن تجعلنا الحرب بكل قسوتها نصمت”.

سيرة الجوع والوجع
“عزيزي القارئ.. أدعوك للخروج إلى الشرفة أو النافذة.. تأمل البيوت المتلاصقة، الشوارع بأزقتها وتفرعاتها، الأشجار الباسقة، أعمدة الإنارة، الإشارات الضوئية، خط المشاة، الإعلانات، السيارات الفاخرة والعربات المتهالكة. ركز على تفاصيل الأشياء ثم عد إلى شقتك أو غرفتك وأعط عينيك الفرصة لتتمعن في الجدران، لون الطلاء، الصور، اللوحات، شهادات التقدير، الأرائك والكراسي، فناجين القهوة وعلب الحلوى، ثم قبل أن تغمر بالحزن، اذهب نحو فراش زوجتك وأطفالك، قبلهم كأنك سترىهم للمرة الأخيرة، عانقهم بحرارة، ثم اقبل معي لنصلي في هذا المكان الخاوي”.
تلك الكلمات كتبها الروائي يسري الغول على غلاف كتابه: “نزوح نحو الشمال.. سيرة الجوع والوجع”، وهو تسجيل يومي يعكس تجربة حقيقية، حيث يقول للجزيرة نت: “لا أدري إن كنت محظوظًا بموقعي في شمال قطاع غزة أم لا، فأنا لم أنزح إلى جنوب وادي غزة رغم كل الضغوط والتطرف الإسرائيلي لأشهد جرائم الاحتلال، ولأوثق تجربة الجوع التي مررنا بها بشكل لم يكن ليتخيله أحد حتى في أسوأ كوابيسه”.
“ولم أكن في لحظة كتابة هذه اليوميات على يقين من النجاة، وما زلت، فالقذائف والطائرات لا تتوقف، حتى باتت جزءًا من روتيني اليومي، وقد أكون الرقم التالي من بين الشهداء، الذين يموتون بالمئات يومياً، بشكل يدعو للسخرية، كأن يذهب شاب لصالون حلاقة استعداداً لحفلته، فقصفت الجهة وقتل الجميع في مشهد عبثي”، وفق الغول، أحد أبرز كتّاب غزة الحاصلين على جوائز عربية ودولية لأعماله المترجمة لعدة لغات.
ويتابع القول: “كما قد يصطف الأطفال في طابور طويل للحصول على وجبة طعام، فتستهدفهم قذيفة على بعد، متفرقة الشظايا تخترق أحلامهم وحياتهم. وكأن تمشي نحو اللامكان، ثم تفاجأ بقنبلة تسقط باتجاه جسمك الضعيف، ربما يكون كل ذلك مجرد لعبة ترفيهية بين جنود في ثكنات بعيدة، مجسدين هكذا موتاً”.
قد يظن البعض أن “الكلمات قد لا أهمية لها أمام تعطش الآخر للدم”، لكنه يؤمن قائلاً: “بالتأكيد ستظل جريمة تُدون للتاريخ كحقبة مظلمة من تاريخ الإنسانية”.
ويقول الغول: “لا أعني شيئًا سوى نقل الوجع والرسالة، مؤمنًا بأنه يجب أن يكون هناك مجنون يلقي القنابل في وجه جميع الأنظمة المتواطئة والنخب المتزلفة والشعوب العاجزة عن الحركة والغارقة في الصمت”.
ما أهمية الكتابة في زمن الحرب؟ يجيب الغول، ممسكًا بالكتاب الرابع له مشيرًا إلى ما تعرض له من قتلٍ وجوع: “الكتابة تحت الحرب هي بمثابة القشة التي نتعلق بها، نحاول الوصول إلى الأمان، ليس بأجسادنا، بل بأفكارنا ومعتقداتنا، وبنقل مظلوميتنا للعالم”.