بدأ المواجهة بين أميركا والصين منذ أوائل الألفية الثالثة، وتفاقم خلال ولاية ترامب (2017-2020) عبر خمس محاور رئيسية. تشمل هذه المحاور اتهامات بتلاعب الصين في قيمة عملتها، وممارسات شركاتها التكنولوجية التجسسية، وزيادة الرسوم الجمركية الأميركية. كما تهدد أميركا بإلغاء تأشيرات الطلاب الصينيين، مما يؤثر على تمويل الجامعات الأميركية ويعكس مخاوف أمنية من نقل التقنية. بالرغم من تبني العولمة الأميركية لمبادئ التجارة الحرة، تبقى المصالح الماليةية حاضرة، مما قد يؤثر سلبًا على البحث العلمي ويزيد من حدة المواجهة، بينما تبحث كلا الدولتين عن بدائل في المنظومة التعليمية والتقنية.
بدأت علاقة المواجهة بين الولايات المتحدة والصين منذ فترة طويلة، ولكنها تصاعدت إلى حرب اقتصادية مفتوحة خلال ولاية القائد الأميركي دونالد ترامب الأولى من 2017 إلى 2020. ويمكن تتبع مسيرة هذا المواجهة منذ بداية الألفية الثالثة وحتى اليوم عبر خمسة محاور رئيسة.
شملت محاور المواجهة الماليةي بين الولايات المتحدة والصين النقاط التالية:
- اتهام الصين بمحاولتها المستمرة للحفاظ على قيمة عملتها منخفضة بهدف تعزيز صادراتها.
- اتهام الصندوق السيادي الصيني بوجود دور سياسي له.
- اتهام الشركات الصينية في قطاع التقنية بممارسة أنشطة تجسس.
- استخدام الولايات المتحدة لآلية الرسوم الجمركية بشكل متزايد ضد الواردات من الصين.
- الإعلان عن خطة لبدء إلغاء تأشيرات الطلاب الصينيين، خصوصًا أولئك المرتبطين بالحزب الشيوعي أو الذين يدرسون في مجالات حساسة.
وهنا يأتي الدور السياسي للقرار المتوقع من الولايات المتحدة تجاه الطلاب الصينيين، إذ سيتم تصنيف هؤلاء الطلاب بناءً على انتمائهم السياسي وكذلك نوعية الدراسات التي يتراجعون إليها.
وصفت وزارة الخارجية الصينية بيان وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو بأنه غير منطقي، وأنه يضر بمصالح الطلاب الصينيين. ويُعتبر الطلاب الصينيون من أهم مصادر التمويل للجامعات الأميركية، حيث يدفعون رسومًا دراسية كاملة.
تتشير بعض التقديرات إلى أن عدد الطلاب الصينيين في الولايات المتحدة يصل إلى 277 ألف دعا في مراحل المنظومة التعليمية الجامعي والدراسات العليا، بينما تشير تقارير إلى أن هذا العدد في تراجع منذ عام 2021، حيث كانت الأعداد تتجاوز 300 ألف دعا.
تشير وكالة بلومبيرغ إلى أن بعض نواب الحزب الديمقراطي أنذروا في تقرير لهم من خطورة اطلاع الطلاب الصينيين على أبحاث موّلت من وزارة الدفاع، وهو ما يعني إمكانية نقل أسرار هذه الأبحاث إلى دولة عدوة.
الملاحظة المهمة هنا هي أن ما صرحه وزير الخارجية الأميركي يتأتى من مخاوف أمنية تتعلق بنقل التقنية، خاصة في ظل الحرب الماليةية المعلنة بين الولايات المتحدة والصين.
يجدر بالذكر أن بعثات المنظومة التعليمية الصينية إلى الولايات المتحدة بدأت في السبعينات بمبادرة من القائد الأميركي جيمي كارتر، حيث تم ابتعاث نحو 10 آلاف دعا صيني، إلا أن الأعداد قد انخفضت في السنوات الأخيرة، حيث تجاوز عددهم في بعض السنوات 900 ألف دعا.
المصالح لا المبادئ
على الرغم من تبني المشروع الأميركي للعولمة نظامًا من المبادئ، بما في ذلك حرية التجارة والتنمية الاقتصادية الأجنبي والمنافسة الماليةية، إلا أن الواقع يُظهر أن المصالح تتقدم على المبادئ. والخطر الأكبر هو أن العلاقة بين القوى الماليةية تتمثل في المواجهة وليس المنافسة، وتجلى ذلك في ممارسات ترامب المتعلقة بالرسوم الجمركية وحجب التقنية.
لذلك، عانت عدة دول من ممارسات الولايات المتحدة الماليةية، سواء من خلال تصديرها لمشكلاتها الماليةية الداخلية، أو من خلال خرقها لنظام المنظمات الدولية المعتمدة على مبدأ “تعدد الأطراف”.
العجز التجاري والمديونية المتزايدة في الولايات المتحدة يضعان ضغوطًا على الوضع المالي هناك، مما أدى إلى إعادة تصنيف الائتمان الأمريكي من قبل وكالات التصنيف الدولية، حيث تراجع تصنيف الولايات المتحدة على مؤشر وكالة موديز من “AAA” إلى “AA1” في مايو 2025.
تجاهل التاريخ
تم تناول محاور المواجهة والحرب الماليةية بين الولايات المتحدة والصين بشكل واسع من خلال وسائل الإعلام والأبحاث العلمية، لكن الخطوة الأخيرة المتعلقة بإلغاء تأشيرات الطلاب الصينيين تُعتبر الأحدث في مسيرة هذا المواجهة.
إذا كانت الولايات المتحدة قد اتخذت هذه الخطوة ضد الطلاب الصينيين، فمن الممكن أن تتبعها خطوات مشابهة ضد دول أخرى ترى أنها تُشكل تهديدًا لنقل التقنية، أو أن لديها نوعًا من المنافسة غير المرغوبة مع المالية الأميركي.
ومع ذلك، يجب على الولايات المتحدة أن تعي أن سجلات التاريخ محفوظة، وأنها عندما كانت في مراحل النهضة، أرسلت طلابها إلى دول أخرى في بعثات تعليمية ساهمت في تقدمها التكنولوجي. يذكر الكاتب البريطاني جون تشانج في كتابه “ركل السلم بعيدًا: استراتيجيات التنمية والتطور قديمًا وحديثًا” أن 9 آلاف أميركي درسوا في ألمانيا بين عامي 1820 و1920.
رغم أن الفترة كانت تمتد على مدى 100 عام، إلا أن المبدأ ذاته جعل أميركا تستفيد. يجب أن نتخيل عدد 9 آلاف دعا في ذلك الزمن إلى جانب عدد السكان حينها، كما أن الأيام دول، ولم تكن أميركا بلا هدف من وراء بعثاتها المنظومة التعليميةية لألمانيا، حيث لعبت أدوارًا مهمة في الحربين العالميتين الأولى والثانية، مما مكنها لاحقًا من قيادة العالم، وكان للعلم والبحث العلمي دورٌ كبير في ذلك.
يتوقع أن يصل عدد الطلاب الوافدين إلى أميركا في عام 2024 إلى نحو 1.1 مليون دعا، يتصدرهم الطلاب الهنود والصينيون بنسبة تتجاوز 50%، على الرغم من أن الهند قد تفوقت على الصين من حيث عدد الطلاب.
التأثير الماليةي
بحسب بيانات المؤسسة المالية الدولي، فإن صادرات الخدمات الأميركية في عام 2023 تصل إلى حدود تريليون دولار، تستحوذ الصين على نحو 50 مليار دولار منها، في حين بلغت صادرات الخدمات المنظومة التعليميةية الأميركية إلى الصين 14.3 مليار دولار.
ورغم أن هذا الرقم يبدو كبيرًا نسبيًا عند النظر إليه في سياق إنفاق دول أخرى على الخدمات المنظومة التعليميةية في الولايات المتحدة، إلا أنه يمثل جزءًا بسيطًا مقارنة بالناتج المحلي الإجمالي الأميركي الذي بلغ 27.7 تريليون دولار في عام 2023.
ثقل إنتاج التقنية
يمكن النظر إلى التأثير الماليةي على أنه متعلق بالنفقات المباشرة للطلاب وزيادة الطلب على السلع والخدمات، ولكن التأثير غير المباشر هو ما جذب انتباه إدارة ترامب ومسؤولين أميركيين سابقين، حيث يتمثل في تغيير قوة إنتاج التقنية. فقد لاحظ النواب الأميركيون أن الطلاب الصينيين يشكلون الكتلة الأكبر من الطلاب الدوليين في مجالات العلوم والتقنية في الجامعات الأميركية.
هناك وجه آخر مهم يتعلق بإسهامات الأجانب في البحث العلمي في أميركا، إذ تعتبر تلك الإسهامات ملموسة ولا يمكن تجاهلها. وقد تؤدي الخطوة الأميركية إلى آثار سلبية مسّت مسار البحث العلمي، خاصة مع تقليص تأشيرات الدخول للطلاب الصينيين.
من المتوقع أن يزداد المواجهة بشكل عام، وبشكل خاص في مجال البحث العلمي، حيث سيسعى كلا الطرفين للبحث عن بدائل، قد تتجه الصين نحو مراكز تكنولوجيا أخرى في الهند أو كوريا الجنوبية.
بينما قد تفتح الولايات المتحدة الباب أمام جنسيات أخرى من أمريكا اللاتينية أو زيادة حصة الطلاب من دول شرق آسيا لتعويض غياب الطلاب الصينيين في المنظومة التعليمية الجامعي والدراسات العليا.
ويبدو أن حسابات كلا الطرفين استراتيجية ولا تخضع للتكتيك، فالمواجهة في صعود مستمر، وحتى لو هدأت الموضوعات التجارية الأخرى، فإن ملف نقل التقنية من الولايات المتحدة إلى الصين سيكون له اعتبارات أكثر تشددًا، مما يمثل توافقًا بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري، حيث زادت القيود التكنولوجية على الصين خلال ولاية بايدن.