تتصاعد مطالب الاتحاد العمالي العام في لبنان لزيادة الحد الأدنى للأجور بسبب الانهيار الاقتصادي المدمر وتداعيات العدوان الإسرائيلي. الأزمة الحالية ثمرة عقود من السياسات الاقتصادية الفاشلة والفساد، مما أدى إلى خراب مؤسسات الدولة وتفشي التضخم المفرط. يواجه اللبنانيون صعوبات شديدة في تلبية احتياجاتهم الأساسية، حيث يعتمدون على اقتصاد ‘الدولار الأسود’. تتزامن المعاناة مع مفاوضات جديدة مع صندوق النقد الدولي التي تثير القلق، حيث يخشى المواطنون من آثار سياسات التقشف. الاتحاد يحذر من أن التهميش الاجتماعي قد يؤدي إلى احتجاجات وأزمات أكبر إذا لم تتخذ الحكومة إجراءات فعالة.
الاقتصاد العربي | شاشوف
في ظل انهيار اقتصادي غير مسبوق وتأثيرات مدمرة نتيجة العدوان الإسرائيلي الأخير، ارتفعت صرخات الاتحاد العمالي العام في لبنان مجدداً، مطالبة بزيادة فورية للحد الأدنى للأجور لمواجهة أزمة الغلاء الفاحش التي هجرت ما تبقى من قدرة المواطنين على الصمود.
تتزامن هذه المطالب الملحة مع انطلاق جولة مفاوضات جديدة بين وزارة المالية وبعثة صندوق النقد الدولي، وسط آمال شعبية حذرة في الوصول إلى اتفاق قد يخفف من السقوط الحر، دون تحميل الشعب المزيد من الأعباء.
اقتصاد منهار: جذور الأزمة العميقة
لم يكن انهيار لبنان نتيجة ظرف طارئ، بل هو ثمرة عقود من السياسات الاقتصادية غير المستدامة وسوء الإدارة، بالإضافة إلى الفساد الذي نخر مؤسسات الدولة. اعتمد الاقتصاد اللبناني لعقود على نموذج ريعي معتمد على قطاع مصرفي غير مستدام وارتفعت فيه التحويلات الخارجية والسياحة، بينما تم تجاهل القطاعات الإنتاجية مثل الزراعة والصناعة.
هذا الوضع، وفقًا لتحليلات اقتصادية متخصصة، أدى إلى تكوّن دين عام هائل؛ حيث لجأت الدولة للاستدانة بفوائد مرتفعة لتمويل عجزها المستمر، في نظام وصف بأنه أشبه بـ ‘مخطط بونزي’ مالي.
مع بداية الأزمة في أواخر عام 2019، انهارت الثقة في القطاع المصرفي، وفُرضت قيود صارمة على السحوبات، مما أدى إلى احتجاز ودائع المواطنين بالعملات الأجنبية. وتزامنت هذه الصدمة الداخلية مع سلسلة من الضغوط الخارجية، بدءًا من تداعيات الحرب في سوريا، مرورًا بجائحة كورونا، وصولًا إلى الانفجار الكارثي في مرفأ بيروت في أغسطس 2020، مما دمّر أجزاء واسعة من العاصمة وعمّق الجراح الاقتصادية. كل هذه العوامل أدت إلى انهيار شبه كامل لليرة اللبنانية واندلاع موجة من التضخم المفرط جعلت من أبسط مقومات الحياة ترفاً بعيد المنال.
الحياة بالدولار “الأسود”: معاناة يومية لا تحتمل
خَلص بيان الاتحاد العمالي العام، الصادر يوم السبت الماضي حسب اطلاع شاشوف، مأساة اللبنانيين اليومية بكلمات قاسية: “إيجارك وسكنك بالدولار، سلتك الغذائية بالدولار، رسومك وضرائبك والخدمات أيضًا بالدولار، مدارسك مع الزيادات السنوية على الدولار، صحتك أيضًا بالدولار، والنقل وصيانة السيارة والوقود بالدولار.”
وأضاف البيان بمرارة أن الحكومة، بعدما توقفت الأجور فعليًا عند مستويات عام 2019 بالليرة، “تأخذ منك كل شيء، حتى مدخراتك في المصارف، وتمنحك المسؤول الفتات مما تبقى من الدولار.” متهمًا المسؤولين بالسعي للتمييز وزيادة أسعار المحروقات لتغطية بعض الحقوق.
هذه “الدولرة” شبه الشاملة للاقتصاد، في ظل انهيار العملة الوطنية، تعني أن الغالبية الساحقة من اللبنانيين الذين يتقاضون رواتبهم بالليرة (إن وجدت) أو يعتمدون على مساعدات ضعيفة، أصبحوا غير قادرين على تلبية احتياجاتهم الأساسية.
العدوان الإسرائيلي: خسائر إضافية لاقتصاد منهك
تتفاقم هذه المعاناة الداخلية بفعل العدوان الإسرائيلي الذي يتكرر بين الحين والآخر – خصوصًا في جنوب لبنان – والذي تمتد آثاره لتطال مناطق أخرى.
تفيد تقارير اقتصادية دولية، بما فيها تقديرات من مصادر مثل “رويترز” و”بلومبيرغ” والبنك الدولي، أن هذه الهجمات كبدت لبنان خسائر اقتصادية جسيمة تجاوزت 3 مليارات دولار حتى نهاية 2024 بسبب دمار البنية التحتية.
ووفق بيانات صندوق النقد الدولي، يُظهر تقرير مرصد شاشوف انكماش الاقتصاد اللبناني بنسبة 15% في عام 2024 مقارنة بعام 2023، ليصل الناتج الإجمالي المحلي إلى 12 مليار دولار فقط، مقابل 55 مليار دولار في 2018، أي قبل بدء الأزمة المالية التي لم يستطع لبنان الخروج من تداعياتها حتى اليوم.
كما تأثر قطاع السياحة، أحد الشرايين المتبقية في الاقتصاد اللبناني، بشكل كبير بسبب الحرب، حيث ألغيت الحجوزات وتراجعت أعداد الوافدين، مما أدى إلى خسارة 20% من إيرادات السياحة السنوية، بما يعادل 1.2 مليار دولار.
وتعرض القطاع الزراعي لأضرار بالغة، خصوصًا في الجنوب، حيث يعتبر مصدر رزق لآلاف العائلات، جراء القصف وتدمير المحاصيل والأراضي الزراعية، مما أدى إلى تضرر 40% من الأراضي الزراعية وخسارة تقدر بـ 800 مليون دولار.
إضافة إلى ذلك، تشير التقديرات إلى تكاليف باهظة بسبب النزوح الداخلي، وهبوط حاد في ثقة المستثمرين، مما يصعّب جذب أي استثمارات خارجية ضرورية للتعافي.
صندوق النقد والبنك الدولي: روشتة مثيرة للجدل
في هذا السياق المعقد، تتوجه الأنظار إلى المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، الذي عقدت بعثته أولى جلسات التفاوض مع وزارة المالية يوم الجمعة الماضية، وإلى البنك الدولي الذي يتحدث عن تكثيف محادثات إعادة إعمار لبنان، لكن تدخلات هذه المؤسسات الدولية غالبًا ما تكون محفوفة بالمخاطر ومثيرة للجدل، خاصة في ظل تجارب سابقة لدول نامية.
تاريخيًا، تفرض هذه المؤسسات حزمًا من الشروط القاسية مقابل تقديم القروض، تعرف ببرامج التكيف الهيكلي، وتشمل هذه الشروط عادةً سياسات تقشف مالي صارمة (خفض الدعم عن السلع الأساسية مثل الوقود والخبز، وتقليص الإنفاق العام على الخدمات الاجتماعية)، وخصخصة مؤسسات الدولة، وتحرير سعر الصرف بالكامل، وإصلاحات ضريبية قد تزيد العبء على الطبقات الفقيرة والمتوسطة.
يعتقد العديد من الاقتصاديين والمراقبين أن هذه “الإصلاحات” المفروضة من الخارج، دون اعتبار للخصوصيات المحلية أو الظروف الاجتماعية الهشة، قد زادت من تعقيد الأزمات في العديد من الدول.
في لبنان، يشعر الكثيرون بالقلق من أن يؤدي تحرير سعر الصرف بالكامل دون وجود شبكات أمان اجتماعي قوية، ودون معالجة الأسباب الجذرية للفساد وسوء الإدارة، إلى انهيار إضافي لليرة وارتفاع غير مسبوق في التضخم، مما يعني سحق ما تبقى من قدرة شرائية للمواطنين. كما أن رفع الدعم بالكامل عن المحروقات، وهو ما أشار إليه الاتحاد العمالي كمسألة خلاف مع الحكومة، سيؤدي حتمًا إلى موجة غلاء جديدة تشمل جميع السلع والخدمات، وهو ما حذّر منه “شادي السيد”، رئيس اتحاد نقابات العمال المستخدمين في لبنان الشمالي، الذي انتقد غياب وزارة الاقتصاد عن ضبط الأسعار.
مطالب عمالية وتحذيرات من انفجار اجتماعي
أمام هذا المشهد القاتم، طالب الاتحاد العمالي العام بـ”وقفة وطنية مسؤولة من الحكومة وحوار جاد لتعديل منطقي للحد الأدنى للأجر في القطاع الخاص وإعطاء زيادة غلاء معيشة، ودمج ما يسمى بالمساعدات في صلب الراتب للقطاع العام.”
وحذّر الاتحاد من أن البلاد “تسير نحو حالة من الخلل الاجتماعي الكبير التي قد تؤدي إلى إضرابات واعتصامات وتحركات في الشارع.” وهو ما أكده “شادي السيد” بقوله: “نحن ذاهبون إلى التصعيد، وننتظر من الحكومة تحركًا وسلوكًا مسؤولاً.”
ويبقى السؤال الأكبر معلقًا: هل تستطيع الطبقة السياسية اللبنانية تجاوز مصالحها الضيقة والاتفاق على خطة إنقاذ وطنية حقيقية تعالج جذور الأزمة، أم أن البلاد ستستمر في الانزلاق نحو المجهول، تاركةً شعبها فريسة للجوع والفقر وتداعيات الحروب، وشروط المؤسسات الدولية التي قد تكون دواءً مُرًّا أو سمًّا قاتلًا للاقتصاد المحتضر؟
تم نسخ الرابط
(function(d, s, id){
var js, fjs = d.getElementsByTagName(s)[0];
if (d.getElementById(id)) return;
js = d.createElement(s); js.id = id;
js.src = ‘//connect.facebook.net/ar/sdk.js#xfbml=1&version=v3.2’;
fjs.parentNode.insertBefore(js, fjs);
}(document, ‘script’, ‘facebook-jssdk’));