ينبش بيديه وسط الركام لإخراج المصابين ويتعامل مع أشلاء وأحياناً يجد نفسه محاطاً بمئات الضحايا
بين من أعرب عن فزع ومن تحدث عن شجب وتنديد ومن أشار إلى عدم تصديق لما جرى من استهداف لقافلة من سيارات الإسعاف في شمال غزة قبل أيام، وهو القصف الذي أودى بحياة عشرات وأضاف إصابات إلى المصابين وأصاب مسعفين، تؤكد منظومة الإسعاف الفلسطينية، وتحديداً في قطاع غزة، أنها “نجم حرب القطاع”.
حرب القطاع التي قاربت على إتمام شهرها الأول عامرة بالنجوم. قتلى قاربوا على الـ10 آلاف، ومصابون قاربوا على الـ30 ألفاً، وما يزيد على مليون شخص نزحوا قسرياً، وأكثر من مليوني فلسطيني يتنفسون الآن ولا يعلمون إن كان النفس القادم سيأتي أم سيكون هذا هو الأخير. كل هؤلاء نجوم حرب القطاع، لكن مع مرور كل دقيقة من دقائق الحرب تؤكد منظومة الإسعاف في غزة أنها نجم استثنائي.
نجم الحرب
نجم الإسعاف في غزة لم يسطع فجأة في حرب القطاع، فقد سبق له السطوع كلما تعرضت غزة لقصف أو حرب أو دك، أو حتى على مدى سنوات الحصار، لكن سطوع هذه المرة مختلف. منظومة الإسعاف دائماً تكون بدائرة الضوء في الأوضاع الطارئة، وما أكثرها في غزة، أو في الحروب العاتية كتلك الدائرة حالياً.
في حرب القطاع أصبح المسعفون وسيارات الإسعاف في غزة حديث الجميع ومحط الأنظار والاهتمام. سيارات الإسعاف، التي تكاد تطير على الطرق المدمرة لنقل من يمكن نقلهم من تحت الأنقاض جراء القصف، إلى المستشفيات التي لم تتوقف بعد عن العمل، لا تغيب عن نوافذ “غزة” و”بيت حانون” و”جباليا” و”خان يونس” و”دير البلح” وغيرها من النوافذ المفتوحة على مصاريعها على شاشات الأخبار العاجلة.
هذه السيارات وطواقمها الطبية والعمل المذهل الذي تقوم به على رغم شح الإمكانات وبدائية الموارد وضآلة بيئة العمل الآدمية لهم تحولت إلى الفقرة الثابتة في كل خبر وتحليل وتطور وتفاوض ونقاش، وأخيراً في كل قصف يدك المباني والرؤوس. وتطور الأمر مع تصاعد حرب القطاع ليتسع مجال عمل هذه الطواقم من مجرد مسعفين ومنقذين إلى مصادر خبرية لما جرى في أماكن القصف، وأخيراً إلى أقارب لضحايا القصف ثم ضحايا يفقدون حياتهم أثناء إسعاف غيرهم.
أحدث – وليس أول – ضحايا من المسعفين في غزة وقعوا في الضربة التي استهدفت موكب سيارات إسعاف كان في طريقه إلى معبر رفح. لقي 15 شخصاً حتفهم، وأصيب 60 آخرون بينهم طواقم المسعفين.
فزع الأمم المتحدة
الأمين العام لمنظمة الأمم المتحدة عبر عن فزعه بسبب الهجوم، قائلاً “أشعر بالرعب جراء الهجوم الذي أبلغ عنه في غزة ضد موكب لسيارات الإسعاف خارج مستشفى الشفاء. صور الجثث المتناثرة في الشارع أمام المستشفى مفجعة”.
شعور مماثل بالفاجعة عبر عنه مدير منظمة الصحة العالمية تيدروس أدهانوم الذي تحدث عن “صدمته الشديدة إزاء التقارير التي أفادت بوقوع هجمات على سيارات إسعاف تجلي المرضى قرب مستشفى الشفاء في غزة”. وطالب بضرورة حماية المرضى والعاملين الصحيين والمرافق وسيارات الإسعاف في جميع الأوقات.
في جميع الأوقات على مدى سنوات، وبشكل واضح وصريح ومباشر وعلى الهواء مباشرة، وطواقم الإسعاف في غزة في قلب الحدث، وأحياناً الحدث نفسه. عشرات القصص شهود عيان في مستشفيات غزة ومحيطها عن مسعفين يتوجهون فور تلقي استغاثة تفيد بوقوع مصابين عقب قصف، فيفاجأ المسعف أن أهله بين الضحايا أو الأشلاء أو المصابين أو تحت الأنقاض. أحدهم فوجئ بزملائه يحملون جثمان زوجته، وآخر وجد جثمان ابنه بين الضحايا المحمولين للمبردات، وثالث حمل والديه من تحت أنقاض بيت الأسرة إلى المستشفى، والقصص لا تتوقف، وعمل المسعفين أيضاً لا يتوقف.
مدير مجمع الشفاء الطبي في غزة محمد أبو سلمية قال في تصريحات صحافية قبل أيام من قصف قافلة الإسعاف في محيط هذا المجمع إن الأطباء والمسعفين وطواقم التمريض يعملون في ظروف استثنائية شديدة الصعوبة، وذلك بسبب الكم الهائل من المصابين والقتلى، فضلاً عن كونهم لم يغادروا المستشفيات منذ تفجرت الحرب بعد أن تم قصف بيوتهم أو تهجيرهم.
المسعف في غزة
المسعف في غزة يظل في نهاية الأمر مواطناً فلسطينياً، بيته معرض للقصف، وهو وأفراد أسرته معرضون للتهجير. حتى صورته الذهنية كـ”سوبر مان” (الرجل الخارق) التي فرضت نفسها على ملايين المتابعين المثبتين أمام الشاشات لملاحقة أخبار حرب القطاع لا تعني أنه غير قابل للانهيار أو التهجير أو التشريد أو الانضمام إلى قوائم المصابين، وبالطبع الضحايا.
وزارة الصحة الفلسطينية تقول إنها رصدت ما يزيد على 250 حالة اعتداء على الكوادر الطبية، و69 حالة اعتداء على منشآت صحية منذ اندلاع حرب القطاع. وتقول الوزارة إن 150 من أفراد الطواقم الطبية قد “استشهدوا”، وتم تدمير 57 سيارة إسعاف، وذلك حتى السبت الماضي.
الدور الذي تقوم به طواقم الإسعاف في غزة، وما يتعرضون له على مدى الدقيقة من ضغوط تتراوح بين طبيعة عمل بالغة الصعوبة، من ركض على مدى اليوم لنقل ضحايا قصف مستمر، وإسعاف من يمكن إسعافهم في موقع القصف، وضغوط نفسية وعصبية غير مسبوقة، ناهيك بقلق بالغ على أفراد أسرهم، وتعرضهم في كل دقيقة ليصبحوا هم أنفسهم ضحايا، تدفع عديداً من المؤسسات والجمعيات والهيئات الصحية والحقوقية والأممية حول العالم لإصدار بيانات وجمع توقيعات بهدف حماية أفراد هذه الطواقم، الذين هم طوق نجاة لأهل غزة على مدى الحرب.
التزام القانون الإنساني
“الدورية الطبية البريطانية” أصدرت بياناً قبل ساعات تطالب فيه المجتمع الدولي والأطراف المتحاربة حتمية التزام القانون الدولي الإنساني للحفاظ على حياة المدنيين والطواقم الطبية وكذلك الخدمات الطبية في هذه الحرب الطاحنة. وجاء في البيان أن جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني تبذل كل ما في وسعها لتقديم خدماتها، لكنها تحتاج ضمانات أكبر للحفاظ على سلامة مقدمي الرعاية الصحية ومرافقها. وشدد البيان على ضرورة تمكين سيارات الإسعاف والمستجيبين لنداءات الاستغاثة (المسعفين) من الوصول إلى الجرحى، وتقديم الاستجابة الطارئة من دون التعرض لخطر الإصابة أو الموت، لا سيما أن عشرات الآلاف من الفلسطينيين ما زالوا في منازلهم، أو في الملاجئ بمدارس في شمال غزة، ومعرضين لأن يحتاجوا إلى الخدمات الصحية الإغاثية في أي وقت.
الخدمات الصحية الإغاثية الجاري تقديمها لعشرات الآلاف من أهل غزة في ظل حرب القطاع جذبت اهتمام كثر لهذه المنظومة الصحية الإنسانية التي قل ما يلتفت إليها أحد في الأيام العادية.
هذه السيارة الصاخبة
هذه السيارة الصاخبة التي يعني ظهورها فجأة على الطريق وانطلاق آلة تنبيهها المدوية إما أن أحدهم في طريقه لتلقي رعاية صحية عاجلة في مستشفى، أو أن حادثة وقعت وتوجد إصابات تحتاج إما إلى إسعافات عاجلة وإما إلى نقل للمستشفى. أقصى صعوبة تجدها سيارة الإسعاف ومن فيها من مسعفين هي التعامل مع ازدحام الطرقات، إذ الوقت يعني كثيراً والدقيقة قد تنقذ حياة شخص أو تهدرها، أو تجمع المارة حول المصاب مما يعوق عمل المسعف.
أما أن يكون عمل المسعف متضمناً النبش بيديه وسط الركام في محاولة لإخراج من تهدم بيته على رأسه ورؤوس أسرته، أو أن يتعامل مع أشلاء، أو يجد نفسه محاطاً بمئات الضحايا بين قتلى ومصابين، أو أن يفاجأ بأن معظم الضحايا والمصابين رضع وأطفال، فهذا ما جعل من إسعاف غزة سبباً للبحث عن أصل منظومة الإسعاف ومنشئها، والتطورات التي شهدتها، وكيف تحولت من نقل مصاب أو مريض على نقالة بدائية محمولة بالأيدي إلى طائرات ودراجات نارية وزوارق سريعة، وأصعب ما تواجهه طواقم الإسعاف في العالم.
قائمة المهام
قائمة المهام التي يتولاها المسعف تحوي التعامل الأولي مع الحروق والكسور والجروح لا سيما وقف النزف، وإخضاع المريض لإجراءات إنعاش القلب والرئة، ونقل المصابين بطريقة صحيحة إلى المستشفى ليلقى العناية المتخصصة؟ كما تشمل إجراء الفحص العام له سواء في موقع المريض أو المصاب، أو في الطريق بحسب الحالة. يخضع المريض لقياس درجة الوعي والنبض وضغط الدم والحرارة ولون الجلد وبؤبؤ العين والألم وحركة الأطراف وبقية أجزاء الجسم وغيرها، كما يطلب من المسعف الحصول على تاريخ المريض الطبي – قدر المستطاع، إضافة إلى طمأنة المريض أو المصاب ما دام لم يفقد الوعي.
وعي المسعف وهدوئه وتركيبته النفسية والعصبية تظل كلمة السر في التعامل مع الأزمات والطوارئ الصحية التي غالباً تحيطها حالة من الهلع والقلق، وربما الفوضى جراء صدمة أهل المريض أو المارة. فما بالك بأحوال الحرب التي لا تهدأ؟
الإسعاف والحضارات
الحضارات المصرية واليونانية والصينية القديمة عرفت خدمات الإسعاف، لكنها كانت تقتصر على الحروب. وكان يتم نقل الجندي المصاب من مكان المعركة على “نقالة” إلى معسكر أو خيمة معدة خصيصاً لتلقي ما تيسر من علاجات. وأغلب الظن أن مهمة المسعفين قبل آلاف السنوات كانت تقتصر على عملية نقل الجندي المصاب بسرعة، وهو ما كان يتطلب قوة عضلية ولياقة بدنية عاليتين.
حتى اللحظة ما زالت اللياقة البدنية من شروط العمل كمسعف أو اختصاصي طب طوارئ، لكن أضيفت إليها قائمة من المواصفات والمتطلبات. اللياقة البدنية مطلوبة لأن المسعف يركض وينحني ويحمل أوزاناً مختلفة. أما المواصفات الأخرى فتختلف من دولة إلى أخرى، لكن معظمها يتفق على شهادات متخصصة في عمل الإسعاف، إضافة إلى توليفة من المواصفات بعضها قدرات شخصية يجري صقلها، والبعض الآخر مهارات يمكن اكتسابها. وأهم هذه المواصفات القدرة على حل المشكلات بسرعة وكفاءة، والعمل ضمن فريق، والتمتع بقدرات عقلية ونفسية تمكنهم من التعامل مع الكم الهائل من الضغط والإنهاك الذي يتعرضون له، والقدرة على التواصل مع الآخرين وكذلك إظهار التعاطف.
تعاطف المسعف
تعاطف المسعف مع المصاب وصل إلى درجة التماهي في المشاهد القادمة من غزة. وضمن هذه المشاهد كذلك توسع قاعدة الإسعاف لتشمل “إسعاف شعبي” انضم لصفوف الإسعاف التقليدي المهني المدرب، هذا الإسعاف الشعبي ولد من رحم حجم المأساة في حرب القطاع.
شهود العيان من داخل غزة، وبينهم المراسلون الناقلون للحدث على مدى الساعة يروون كيف أن الغالبية المطلقة – إن لم يكن كل – من مسعفي غزة لم يتركوا عملهم على رغم صعوبة ظروف العمل التي تصل درجة المأسوية. كثير منهم شهد حرباً أو اثنتين أو ثلاثاً أو حتى أربعاً، لكن الكل يجمع على أن هذه الحرب هي الأكثر فداحة ودموية وقسوة. حتى المسعفون المعروف عنهم رباطة الجأش لهول ما شهدوا على مدى سنوات، منهم من يغرق في نوبات بكاء هستيري بينما يؤدي مهمته، ومنهم من بات يشكو عدم القدرة على النوم على رغم الإنهاك الشديد.
ربع نقل وتروسيكل
ومع تزايد أعداد الضحايا والمصابين، لم تعد أعداد سيارات الإسعاف والمسعفين تكفي، وهو ما جعل المواطنين العاديين يهرعون لتقديم العون، كل بطريقته. السيارات الخاصة، وربع النقل، والتروسيكلات (ذات العجلات الثلاث)، والعربات التي تجرها الحمير، جميعها تحول إلى سيارات إسعاف. يساعد المواطنون في عمليات الانتشال والحمل والنقل إلى المستشفيات، لا سيما أن سيارة الإسعاف الواحدة باتت تنقل 10 وربما أكثر من المصابين في المرة تحت وطأة الأحوال وفداحة القصف في الحرب الحالية.
ليست كل الحروب سواء. والإسعاف في الحروب ليس كله سواء. بدايات منظومة الإسعاف ارتبطت بالحروب. في أوائل القرن الـ19 استخدم الجيش الفرنسي عربات تجرها الخيول لنقل الجنود إلى المستشفيات الميدانية في ساحة المعركة. وانتقلت فكرة نقل المرضى والمصابين المدنيين بالعربات ذاتها في ستينيات القرن الـ19 أيضاً إلى المستشفيات العادية.
وبحسب موسوعة “بريتانيكا” فإن أول سيارة إسعاف مزودة بمحركات دخلت الإسعاف في عام 1899، كما استخدمت الطائرات ضمن منظومة الإسعاف للمرة الأولى في الحرب العالمية الأولى (1914-1918). واستخدمت المروحيات للمرة الأولى في الحرب الكورية (1950-1953).
مروحيات وزوارق ومسيرات
الإسعاف في الوقت الحالي ليس مقتصراً على السيارات المعتادة والمروحيات، بل هناك زوارق للحالات التي تصاب أو تتطلب رعاية صحية عاجلة في المسطحات المائية، والباصات التي تستخدم عادة لنقل الإصابات الجماعية أو في حالات الإخلاء الطبي للحوادث، والنقل الطبي غير الطارئ للمرضى الذين تتطلب حالاتهم رعاية طبية مستمرة، ودراجات الإسعاف النارية والتي تستخدم في المناطق المزدحمة لضمان سرعة الوصول للمريض وقد تكون متصلة بعربة صغيرة، إضافة إلى مسيرات الإسعاف التي تقدم إسعافات أولية للمريض أو المصاب من دون نقله إلى المستشفى.
وتبدو المقارنات صادمة لدى الاطلاع على ما يطرأ على منظومة الإسعاف من تطوير وتحديث، بعضه ربما بغرض الإبهار الشكلي والبعض الآخر يستثمر في التطورات التقنية لتوفير فرص أكبر للمصابين والمرضى. مسيرات الإسعاف لم تنتشر على نطاق واسع بعد، لكن اسمها ارتبط في الأيام القليلة السابقة لبدء حرب القطاع بإسرائيل التي طورت مسيرات تحمل إسعافات أولية لموقع المصاب أو المريض، إضافة إلى “تاكسي طبي طائر” ينقل المريض في حالة الطوارئ إلى المستشفى.
وقبل نحو عقد، فاجأت مؤسسة دبي لخدمات الإسعاف الجميع بسيارات “لوتس” الرياضية الفارهة ضمن أسطول الإسعاف، وذلك لتنضم إلى سيارتي “فورد موستانغ”، وذلك “بهدف سرعة الوصول للمريض”. ويشار إلى أن أسرع استجابة إسعاف في العالم تم تسجيلها باسم مؤسسة دبي لخدمات الإسعاف في الـ29 من يناير (كانون الثاني) 2022. وبلغت سرعة السيارة “لايكان هايبرسبورت” 395 كم/ساعة.
كم دقيقة؟
سرعة وصول سيارة الإسعاف إلى المريض أو المصاب تعد ضمن أهم معايير كفاءة المنظومة. متوسط المدة تبلغ نحو 15 دقيقة في عديد من دول العالم الأول، وتصل إلى تسع دقائق في اليابان، لكن بعض هذه الدول يواجه مشكلات في المنظومة، مثل بريطانيا التي تشهد عديداً من إضرابات طواقم الإسعاف، ووصل الأمر ببعض المرضى للانتظار ساعات طويلة حتى وصول الإسعاف.
المصدر :إندبندنت