قررت صنعاء استهداف السفن الإسرائيلية ردًا على العدوان على غزة، مما أثار قلق الغرب حول نفوذ الولايات المتحدة في البحر الأحمر. تحليلات تشير إلى أن هذا يعكس ضعفًا عسكريًا مقرونًا بتكاليف مالية ضخمة. أطلقت إدارة بايدن عمليات عسكرية، ‘حارس الرخاء’ و’راف رايدر’، لكنها فشلت في ردع الحوثيين واستمر الحصار على السفن المتجهة لإسرائيل. التكاليف المالية تجاوزت 2 مليار دولار، أظهرت عجزًا في القدرة على تحمل الخسائر واستمرار الاعتماد على تقنيات عسكرية عتيقة. تطور الوضع يكشف عن ضعف القوة العسكرية الأمريكية ويشير إلى نهاية هيمنتها الجوية.
تقارير | شاشوف
عندما اتخذت صنعاء قراراً، رداً على العدوان الإسرائيلي على غزة، لفرض معادلة جديدة في البحر الأحمر عبر استهداف السفن المرتبطة بإسرائيل، سارعت الدوائر الغربية، كما أشار الصحفي مالكوم كيون في تحليله على موقع “UnHerd” البريطاني، إلى وصف ذلك بأنه جُرأة غير مسبوقة ودليل على تراجع النفوذ الأمريكي. فمن غير المتوقع أن تسمح قوة عظمى بتحدي هيمنتها على أحد أهم الممرات الملاحية في العالم. اعتبرت الأصوات المنتقدة لإدارة بايدن آنذاك ذلك “ضعفاً” و“مهادنة”، متخيلة أن القوة الأمريكية قادرة على سحق هذا التحدي في لمح البصر إذا أرادت.
لكن الواقع، كما يكشفه تحليل المرصد شاشوف الاقتصادي عبر التتبع الدقيق للأحداث وتكاليفها، يقدم صورة مختلفة تماماً. لم يكن الأمر نقصاً في الإرادة بقدر ما كان انكشافاً صادماً لحدود القوة وتكاليفها العالية.
واشنطن تتأرجح: من “حارس الرخاء” إلى “استسلام رف رايدر”
لم تتردد إدارة بايدن في الرد على الحوثيين وأطلقت عمليتين عسكريتين: الأولى، “حارس الرخاء”، محاولةً لتشكيل تحالف دولي لتأمين الملاحة، لكن هذا التحالف ذاب سريعاً ليصبح إحراجاً دبلوماسياً وعسكرياً، بينما استمرت الصواريخ والطائرات المسيرة اليمنية في تحقيق أهدافها. ثم جاءت “بوسيدون آرتشر” في يناير 2024، بضربات جوية أمريكية-بريطانية مكثفة. النتيجة؟ فشل آخر في ردع قوات صنعاء أو فتح البحر الأحمر.
مع وصول إدارة ترامب (حسب السيناريو الذي طرحه كيون)، تغيرت اللهجة والأسلوب، ولكن ليس النتيجة. أُطلقت عملية “راف رايدر” في مارس 2025، كتصعيد هائل وعبرت سماء اليمن قاذفات أمريكية لم يسبق لها مثيل على مدى ستة أسابيع، بما في ذلك قاذفات الشبح B-2 النادرة والتكلفة، التي انطلقت من قواعد بعيدة مثل دييغو غارسيا، إلى جانب طائرات حاملات الطائرات. كان الهدف إخضاع اليمن بالقوة المطلقة.
لكن بعد ستة أسابيع، أعلن ترامب “النجاح”، وتم التوصل إلى وقف إطلاق نار بوساطة عمانية. لكن “الاستسلام” المزعوم لم يكن يمنياً، مقابل وقف أمريكا لقصفها، تعهدت القوات اليمنية فقط بعدم استهداف السفن الأمريكية، بينما استمر الحصار على السفن المتجهة لإسرائيل، واستهداف إسرائيل نفسها، وباعتراف أمريكي ضمني.
لقد ضمنت أمريكا سلامة سفنها بالتخلي عن الهدف المعلن للحرب بأكملها، في خطوة تعكس اعترافاً بالعجز أكثر من كونها انتصاراً.

فاتورة الفشل: الأرقام تتحدث
السرد الذي يركز على “الإرادة السياسية” يتجاهل التكاليف المادية والعسكرية الهائلة التي تكبدتها الولايات المتحدة، والتي يرصدها شاشوف الاقتصادي كما يلي:
1- استنزاف الأسلحة الباهظة: اضطرت البحرية الأمريكية إلى إطلاق مئات الصواريخ الاعتراضية والدفاعية (مثل SM-2 و SM-6) وصواريخ الهجوم الأرضي (Tomahawk)، وتكلفة الصاروخ الواحد تتراوح بين مليون و4 ملايين دولار. ووفقاً للبيانات التي جمعها وحللها مرصد شاشوف، فإن تكلفة الذخائر فقط التي أُطلقت خلال هذه العمليات تجاوزت بسهولة حاجز المليار ونصف المليار دولار.
2- خسائر الطائرات المسيرة: اعترفت القيادة المركزية الأمريكية (CENTCOM) عدة مرات بفقدان طائرات مسيرة متطورة من طراز MQ-9 Reaper، ويقدر متابعون فقدان ما لا يقل عن 6 إلى 8 طائرات من هذا الطراز، بتكلفة إجمالية تتراوح بين 180 و240 مليون دولار (حيث تبلغ تكلفة الطائرة الواحدة نحو 30 مليون دولار)، خلال شهر مارس 2025 فقط، وهذه الطائرات أساسية لجمع المعلومات الاستخباراتية وتحديد الأهداف، وفقدانها يعوق حملة القصف.
3- تكاليف التشغيل الضخمة: إن إبقاء مجموعات حاملات الطائرات (التي استخدمت أمريكا نصف قوتها العاملة فعلياً في هذه العملية) في حالة تأهب قتالي، وتشغيل قاذفات الشبح B-2 (بتكلفة ساعة طيران باهظة)، ونشر السفن الحربية، يمثل تكلفة تشغيلية يومية تقدر بملايين الدولارات، ويضع “مالكوم” التكلفة التشغيلية الإجمالية لهذه الحملات في حدود تتجاوز 2 مليار دولار.
4- التكاليف غير المباشرة والسمعة: الفشل في تأمين البحر الأحمر، أحد أهم شرايين التجارة العالمية، كلف الاقتصاد الدولي مئات المليارات بسبب ارتفاع تكاليف الشحن والتأمين وتغيير مسارات السفن، ولكن الأهم بالنسبة لأمريكا هو التكلفة الاستراتيجية الهائلة الناتجة عن تآكل هيبتها كضامن لأمن الممرات البحرية، وهو ما لا يمكن تقديره بثمن.
هيكل عظمي في الخزانة: انكشاف الضعف العسكري الأمريكي
يشير تحليل “مالكوم كيون” إلى أن المشكلة أعمق من مجرد تكاليف مالية، فقد كشفت المواجهة في اليمن عن ضعف هيكلي في الآلة العسكرية الأمريكية، والذي يمكن تلخيصه في:
- وهم حاملات الطائرات: من ضمن 11 حاملة طائرات، لا يتجاوز العدد الجاهز للعمل فعلياً 3 أو 4 في أي وقت، بسبب الصيانة ونقص الأطقم والأساطيل المرافقة.
- قاذفات الشبح: كنز متهالك: من بين 20 قاذفة B-2، بالكاد تصل 6 أو 7 طائرات إلى حالة “القدرة الكاملة على أداء المهام”، بسبب تقادمها وصعوبات في صيانتها واعتمادها على “أكل لحمها” (استخدام طائرات شبحية أخرى كقطع غيار).
- الأسلحة “الذكية”… نادرة وغالية: تعتمد أمريكا على صواريخ المواجهة (Standoff) مثل JASSM (بسعر مليون دولار للصاروخ) لتجنب الدفاعات الجوية، لكن مخزونها محدود وينفد بسرعة في أي صراع حقيقي، وقدرتها على الإنتاج والاستبدال ضعيفة، وتعتمد على مكونات نادرة (مثل المعادن) تستوردها من منافستها الاستراتيجية، الصين.
- عدم القدرة على تحمل الخسائر: الجيش الأمريكي لم يعد قادراً على استبدال الطائرات والسفن والطيارين المفقودين، وهذا ليس جبناً، بل هو عجز صناعي ولوجستي، ناجم عن تآكل قاعدة الإنتاج العسكري وتقلص الإرث الضخم للحرب الباردة.
ترامب يعلن وقف قصف اليمن ويلمح لـ “إعلان كبير” قبيل جولة في الشرق الأوسط
نهاية عصر الهيمنة الجوية؟
كانت الحرب الجوية الحل السحري لأمريكا — سريعة، “نظيفة”، وبأقل خسائر بشرية، لكن اليمن أثبت أن هذا النموذج قد ولى. لم تستطع أمريكا فرض سيادة جوية كاملة، واضطرت حتى طائراتها الشبحية (F-35) للمناورة هرباً من الصواريخ اليمنية (حسب تقارير مسربة من نيويورك تايمز)، وتكبدت خسائر فادحة في الطائرات المسيرة.
إذا كانت هذه هي النتيجة ضد اليمن، فما الذي سيحدث ضد قوة أكبر مثل إيران، بشبكة دفاعها الجوي الأكثف ومنشآتها المحصنة بعمق؟ أو خصم عملاق مثل الجيش الصيني الذي يبدو أنه يحتفظ بالكثير من المفاجآت العسكرية التي ستغير موازين القوة.
إن ما حدث في البحر الأحمر ليس مجرد هزيمة تكتيكية لواشنطن، بل هو مؤشر استراتيجي مدوٍ، يثبت أن القوة العسكرية الأمريكية، رغم عظمتها الظاهرة، تعاني من هشاشة عميقة، وأن نموذجها الحربي القائم على التفوق الجوي الباهظ لم يعد فعالاً أمام التحديات غير المتكافئة والدفاعات الجوية المتطورة والأقل تكلفة.
لقد نجحت اليمن في كشف “النمر الورقي” الأمريكي، وأجبرته على الاعتراف الضمني بأن عصر الهيمنة المطلقة قد ولّى، وأن العالم يدخل مرحلة جديدة تُكتب فصولها ببطء، ثم فجأة، تماماً كما وصف همنغواي الإفلاس.
تم نسخ الرابط