أنتجتها التحولات الاقتصادية والاجتماعية وعائلات تتخوف من الوصم لدى إيداع ذويهم بها
متغيرات جذرية طرأت على المجتمع التونسي خلال العقود الأخيرة شملت التركيبة السكانية المتجهة تدريجاً نحو التهرم، وهي متغيرات تضع الدولة أمام مسؤولياتها لإيجاد البرامج والاستراتيجيات من أجل العناية بالمتقدمين في السن.
وتبين إحصاءات نشرها المعهد الوطني للإحصاء (مؤسسة عمومية) أن عدد كبار السن بلغ 13 في المئة من مجموع السكان عام 2018، مقابل 11.4 في المئة عام 2014، ويرجح أن ترتفع هذه النسبة إلى نحو 15 في المئة عام 2024 و17 في المئة عام 2029 ونحو 20 في المئة عام 2036.
في سياق تلك التحولات التي شهدها المجتمع التونسي والناتجة من خروج المرأة إلى سوق الشغل، وتغير شكل الأسرة من العائلة الكبرى إلى العائلة النواة المصغرة التي لم تعد قادرة على احتضان المسن ورعايته، ظهرت مؤسسات جديدة في المجتمع موازية لدور المسنين التابعة للدولة تستوعب هذه الفئة، وتقدم إليها خدمات مختلفة من الإقامة الدائمة إلى الإيواء الموقت، وهي دور المسنين الخاصة. فما هو السياق المجتمعي الذي ظهرت فيه هذه الدور؟ وكيف تتم إدارتها؟ ومن يؤمها؟ وهل هي منظمة بالقانون؟
ليست ربحية
يبلغ عدد المؤسسات الخاصة لرعاية المسنين 26، يؤمها ما يزيد على 300 مسن ومسنة، وتتركز غالبيتها في تونس العاصمة وبعض المدن الساحلية.
وأنشئت أول دار خاصة للمسنين في تونس عام 2006 وهي “اللمة” على يد السيدة ليلى قرقورة التي قالت لـ”اندبندنت عربية” إن “هذه المؤسسة تقوم بدور اجتماعي وإنساني لمساعدة عدد من العائلات التونسية في رعاية كبار السن من ذويهم”، وتضيف أن “اهتمامها بمجال رعاية كبار السن دفعها إلى خوض غمار هذه التجربة الفريدة وتحدي جميع الصعوبات التي واجهتها”.
ولفتت إلى أن “الدولة تتعامل مع هذه المؤسسات باعتبارها مؤسسات اقتصادية ربحية، وتوظف عليها أداءات عالية (19 في المئة) بينما هي مؤسسات للرعاية الاجتماعية، داعية إلى وضع نظام خاص لهذه المؤسسات في استخلاص الأداءات”.
وتتابع قرقورة أنها “في بدايات إطلاق المشروع لم تحظَ بالتمويل من البنوك لأن فكرة المشروع جديدة، حتى إن وزارة الشؤون الاجتماعية وقتها فوجئت بها، ثم تجاوزت الصعوبات وأسست أول دار لرعاية المسنين في تونس”.
نظرة المجتمع
تقول مديرة الدار إن “التونسيين يقبلون على إيداع ذويهم من كبار السن ولكن في كنف من السرية، ويشعرون بالحرج بسبب نظرة المجتمع”، مشيرة إلى أنها “تتعامل مع مختلف الشرائح والمصابين بأمراض مثل ألزهايمر والسكري وغيرهما من الأمراض المزمنة”.
وتشدد قرقورة على أنها “توظف عدداً من الأطباء والمساعدين والممرضين من أجل تقديم خدمة جيدة ومتابعة دقيقة للأوضاع الصحية للمقيمين في الدار، والبالغ عددهم نحو 40 في وحدتي عيش منفصلتين”، لافتة إلى “التقنيات والطرق الخاصة للتعامل مع المسن المريض، لذلك يتم توفير فرق عمل يتناوبون على السهر على راحة المسن ليلاً ونهاراً”.
وبتأثر شديد تستحضر مديرة الدار قصص عدد من الذين مروا من هذا الفضاء وتوفوا، فتقول إن صورهم لا تفارق مخيلتها إلى الآن، مبينة أن المهمة صعبة والمسؤولية ثقيلة والتعامل مع المسنين يستوجب مراعاة الجانب الإنساني لأنهم شريحة ضعيفة.
ولئن تحفظت مديرة الدار في البداية عن الإفصاح عن القيمة المادية التي تدفعها عائلة المسن شهرياً فإنها أشارت إلى أنها تراوح ما بين 800 وألف دينار (بين 260 و350 دولاراً)، وهي “لا تفي بالغرض”، بحسب تقديرها.
إحراج اجتماعي
تتخوف عائلات تونسية عدة من الوصم الاجتماعي عند وضع ذويهم من كبار السن في دور المسنين الخاصة أو العمومية، لكن “للضرورة أحكامها”، فيوضح منذر، وهو من سكان العاصمة، متزوج وأب لطفلين (ست وثلاث سنوات)، أنه اضطر إلى وضع والده في دار خاصة للمسنين، ويقوم بزيارته يومياً قبل عودته لمنزله.
منذر يعتصره الألم ويحمر خجلاً بينما يقول، “يفترض ألا أضع والدي في دار للمسنين، لكن ما باليد حيلة، زوجتي بالكاد تستطيع العناية بالطفلين، ووالدي يستحق رعاية خاصة فهو يبلغ من العمر 82 سنة”.
ينفث بقية سيجارته في اتجاه السماء ويضيف أن “أحوال الناس تغيرت وتبدل المجتمع، وعندما أزور والدي ألمح في عينيه نوعاً من العتاب واللوم، لكنه يتظاهر بأن الوضع طبيعي وأنه يشعر بالراحة في المؤسسة”.
يعمل منذر في شركة خاصة وينهي شغله عند السادسة مساء، بعدها يتوجه مباشرة إلى دار المسنين الخاصة لزيارة والده ويتجاذب معه بعض الذكريات، ويقول بينما تمتلئ عيناه بالدموع، “سامحني يا أبي لأنني لم أقدر على رعايتك في كبرك، يفترض أن تكون إلى جانبي في المنزل، ولكن”، ثم يمضي منذر في حال سبيله حاملاً معه أثقالاً من القلق والحيرة وأسئلة تبحث عن إجابات.
متغيرات طارئة
التحولات الاجتماعية والاقتصادية المتسارعة التي يعيشها المجتمع التونسي هي التي عجّلت بظهور مثل هذه المؤسسات، مما يؤكده أستاذ علم الاجتماع في الجامعة التونسية بالعيد أولاد عبدالله، مضيفاً أن “التحولات الديموغرافية والاقتصادية والاجتماعية التي شهدها المجتمع التونسي أسهمت في بروز ظاهرة الاستثمار في المسنين من خلال استحداث فضاءات تستوعبهم وتؤويهم وتوفر لهم الخدمات الصحية والاجتماعية الضرورية، في ظل عدم قدرة بعض العائلات على العناية بهم في الفضاء الأسري”.
ويرى أن “الدولة كانت هي الراعي الوحيد لهذه الفئة من خلال دور المسنين التابعة لعدد من الجمعيات في مختلف ولايات الجمهورية التي يشرف عليها الاتحاد التونسي للتضامن الاجتماعي (مؤسسة عمومية)، واليوم أمام تطور المجتمع باتت الحاجة ملحة لخدمات نوعية جديدة، فظهرت هذه الدور الخاصة التي توفر خدمات بمقابل، وهي تخضع لرقابة الدولة من خلال وزارة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن”.
وتؤكد مديرة كبار السن في وزارة الأسرة والمرأة والطفولة إيمان بالشيخ أن “عدد دور المسنين الخاصة اليوم 26 مؤسسة منها 20 في إقليم تونس الكبرى وثلاث مؤسسات في سوسة وواحدة في المنستير (الساحل) وأخرى في قفصة (جنوب)، ويؤمها 313 مسناً (152 رجلاً و161 امرأة)، وتتولى المندوبيات الجهوية لشؤون المرأة والأسرة والطفولة والمسنين مراقبة ومتابعة هذه المؤسسات الخاصة وترفع تقارير فورية بهذا الخصوص، وفي حال تسجيل إخلالات يتم إشعار مسؤولي الدار لرفعها وتجاوزها، وقد تصل بعض الإخلالات إلى اتخاذ قرار بغلق المؤسسة من قبل الوزيرة”.
تشير دراسة أنجزتها وزارة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن إلى أن “تسعة في المئة من المسنين هم من اختاروا دور مسنين خاصة بحثاً عن الاستقلالية والراحة، و12 في المئة منهم دخلوا هذه الدور لعدم قدرة الأقارب على العناية بهم، بينما 10 في المئة منهم يعانون غياب السند العائلي”.
وأوردت الدراسة أن 76 في المئة من المسنين في تونس غير مكفولين من الأقارب و37.5 في المئة لا يتمتعون بجرايات تقاعد وثلاثة في المئة فقط لهم جرايات اجتماعية، مما يدفعهم إلى العمل في ظروف صعبة.
المصدر :إندبندنت