اللقاء بالقائد البريطاني المساعد الحربي في أبوظبي
والحديث عن ماجرى لحضرموت
———————-
سعود الشنيني
هذا لقاء جمعني صدفة بالمساعد الحربي البريطاني الكولونيل جونسون دون أن يتم التنسيق له مسبقاً
كان ذلك في صبيحة أحد أيام شتاء عام 1978م في مدينة أبوظبي ورغم مرور أربعة عقود من الزمن على ذلك اللقاء إلا انني أحسبه بالأمس القريب لترسخه في ذهني كلمة كلمة ومنذ ذلك التاريخ لم أجد الفرصة المناسبة لنشره كما وُجِدت الآن وسائل التواصل الإجتماعي الأكثر سرعةً وانتشاراً ليتم تدوينه للتاريخ بأنني في سنة من السنين الخوالي قد أوصلت صوتي للمهتمين بالمنطقة عن ماجرى لحضرموت منذ نكبة 1967م التي أودت بها إلى مصير مجهول لم تفق منه للحظة .
ويسعدني هنا أن أنقل لكم اللقاء كما جرى دون زيادة أو نقصان لعلني بعد هذه السنين لا أجد فيه من الحرج السياسي .
وهو كالتالي :
جمعتني الصدفة بأحد القادة العسكريين البريطانيين الذين تم انتدابهم إلى حضرموت وهو الكولونيل جونسون الذي تعود الجميع في حضرموت مناداته ب (المساعد الحربي) ربما لصفته العسكرية ومهامه في حضرموت في ذلك الوقت .
كان المساعد الحربي هو المسئول الأول والمباشر عن مدرسة البادية وكان تسجيل الطلبة وقبولهم في المدرسة يتم عن طريقه هو شخصياً في مكتبه القابع في مقدمة أحد مباني المستشارية بمدينة المكلا .. كان هو أكثر المهتمين بالمدرسة وطلابها والأكثر إطّلاعاً بمايدور فيها وقد عهده الجميع فيها بحضوره المستمر حتى أنه لايغيب عن زيارتها لأكثر من ثلاث أو أربع ليال .. فكنا عند دخول سيارته اللاندروفر الخضراء البوابة الرئيسية للمدرسة بعد المغرب يُسمع تصفيق الطلبة في أروقة وساحات المدرسة فرحاً بمقدمه وعند نزوله من السيارة يلتف حوله الطلبة مثلما يلتف النحل حول سلطانه يعم لحظتها إرتياح كبير لدى الطلبة لما يضيفه لهم من إبتهاج والجلوس بينهم لسماع مشاكلهم ومداعبة صغار السن وتشجيع الآخرين وإضفاء مساحة صغيرة من الحرية نشعر بها جميعنا من خلال إلغاء طابور الساعة الثامنة المسائي (القنتي) المرهق للطلبة الذي تتصلب فيه أرجلهم من القيام لطول فترته الزمنية .. ولاشك أن هذه الإجراءات المريحة للطلبة من قبل المساعد الحربي هي في الغالب لها أهداف سياسية بعيدة المدى يجري ترسيخها في أذهان الطلبة الصغار لتنتج علاقات وديه تجاه القادة البريطانيين والشعور بالإرتياح ناحيتهم .
تولى المساعد الحربي البريطاني قيادة جيش البادية الحضرمي مباشرة بعد مقتل القائد البريطاني السابق (قري) ويعتبر المساعد الحربي هو آخر قائد بريطاني لجيش البادية الحضرمي إلى أن تمت مغادرته حضرموت في العام 1967م وتسلم قيادة الجيش بعده القائد الحضرمي سالم عمر الجوهي .
لقائي به في أبوظبي
————————-
في صباح أحدى أيام شتاء 1978م ذهبت بسيارتي إلى فندق رمادا الذي يقع قرب مطار أبوظبي القديم لتوصيل أحد الأصدقاء تعطلت سيارته هناك .. وبينما كنت واقفاً بجانب سيارته وهو يحاول أصلاحها فإذا برجل من قبيلة المناهيل أعرفه جيداً يدعى البخيت وأعرف أنه لايفقه من اللغة الآنجليزية شيئاً كان يتحدث عند مدخل الفندق لرجلاً ذو ملامح أوروبية نحيل الجسم قد تخطى حوالي الخمسين من العمر ، فتعجبت من العم البخيت واخذني الفضول فتوجهت نحوهم وبينما أنا على بعد خطوات منهم فإذا بذاك الأوروبي قد تخلى عن عمنا البخيت ووجه نظراته نحوي تصاحبها ابتسامة خفيفة وكأنه يتعرف على ملامحي فعرفت الرجل إلا أنه لم يكن طويلاً مثلما كنا نراه سابقاً ويرجع ذلك لقصر قاماتنا عندما كنا صغار ولكن ملامحه لم تتغير وبدت لي هي نفسها فمددت يدي نحوه وهو كذلك وقلت له والسعادة تغمرني المسااااعد الحربي فقال مشدوداً نعم وانت من فسبقني العم البخيت قائلاً هذا الشنيني فقال المساعد الحربي أنت أبن سعد الشنيني فقلت نعم فقال أنت عبدالله قلت لا قال محمد لمعرفته الجيدة بأسماء أخوتي فقلت لا أنا سعود .. فسألني عن والدي فأخبرته أنه بخير وتخابرنا بما فيه الكفاية وعن وصوله أبوظبي فقال وصلت البارحة من لندن فعرضت عليه إيصاله بسيارتي فيما إذا يريد أن يتنقل داخل المدينة أو بقية مدن الإمارات فقال لي شكرا سعود أنا منتظر بشيّر المنهالي سيأتي بعد قليل وسنذهب إلى الشارقة لقضاء بعض الأعمال ولكننا سنعود في المساء وأضاف موجهاً كلامه لي إذا لديك فرصة صباح الغد سأنتظرك هنا في الفندق فقلت له وأنا سأكون سعيداً بذلك .. اتفقنا على الساعة التاسعة صباحاً .. رجعت إلى رفيقي وفي المساء علّ نومي بتزاحم الأفكار والأسئلة عن مايريده مني المساعد الحربي علما أنني قد سمعت عن كثر تردده على الإمارات وأن له مكانة خاصة عند الشيخ زايد .
وصلت أمام الفندق التاسعة صباحاً وبمجرد أن دخلت الفندق وجدته جالساً في إنتظاري ..رحب بي وطلب مفتاح الغرفة من موظف الاستقبال واتجهنا إلى غرفته وعند دخولنا مباشرة قال لي تشرب شاي أو عصير فقلت أفضل الشاي .. قال لي تفضل مشيراً بيده إلى كرسياً مقابلاً له ثم بادر بالكلام قائلاً أخبرني عن البلاد يقصد حضرموت كيف هي واحوال الناس هناك فأخبرته أنها هي هي لم يتغير فيها إلا نظام الحكم ثم بدأ يسألني عن معظم الضباط الحضارم ممن كانوا في جيش البادية مبتدئاً بالعم سالم بادحيدوح الذي كان القائد العسكري لمدرسة البادية آنذاك فأخبرته أنه بخير وعن القائد سالم عمر الجوهي قائد الجيش واركان حرب الجيش حسين المنهالي وعن والدي واحمد نوح بارشيد وسالم بامرضاح وعبدالله باضلاع وسليمان الشماسي وعدّد لي معظم الضباط في الجيش فيما إذا أحد توفى منهم فقلت كلهم بخير .. فقام إلى شنطة وأخرج منها مجموعة من الصور لدفعات كثيرة من مدرسة البادية وبعض الصور له مع سائقه سالم بن ذيبان المنهالي بجانب سيارته اللاندوفر وصوراً مع بعض الضباط .
وجدت صورة لدفعتنا في أولى إبتدائي وهو وسطنا مع القائد بادحيدوح ومساعده العم سعيد المحمدي العوش وسألني إن كانوا جميعا بخير فأجبته بنعم إلا واحداً من الدفعة قتل في أحداث 78م في عدن هو حسن سرور البريكي . . وبينما أنا اتصفح الصور لفتت نظري ثلاث من الصور شدت أنتباهي لما فيها من تشابه عناصرها واختلاف أماكنها .
فقلت له اعجب من هذا الصور الثلاث لك أنت وسائقك سالم ذيبان المنهالي وسيارتك وحرس الشرف في إحدى الصور من HBL جيش البادية فقال نعم فقلت طيب والصورتين الأخريين يختلف الجنود فيها فقال الصورة الثانية أمام جيش عمان والثالثة أمام جيش الأمارات المتصالحة في الشارقة فقلت له أوضح لي أكثر فقال (أنا كنت قائداً لثلاثة جيوش في وقت واحد) ودائماً أقوم بجولات تفقدية لتلك الجيوش .
تركنا الصور وعدنا للحديث عن حضرموت واخبرني عن شوقه وحنينه لحضرموت وأمنيته أن يزورها فقلت له لا اعتقد أن الوقت مناسب فرد قائلاً هل الروش موجودين بكثرة هناك (يقصد الروس) فقلت له الدول المتقدمة تحترم رعايا بعضها أكانوا روساً أو بريطانيين .. ولكن عندنا النظام سيء جدا ولايحترم مثل هذه العلاقات فقال كيف!! فقلت له إذا نحن أهل البلد مرعوبين ونحذر في كل خطوة نخطوها فما بالك بمن أتوا من خارجها .. فقال وهل سيقتلوني فيما لو قمت بزيارة حضرموت فأجبته بأن هذا الأمر مرهون بمدى حرص حكومة بريطانيا تجاهك فضحك .
ثم قفز إلى حديث آخر عن وجود بعض طلبة مدرسة البادية في بريطانيا للدراسة وقال قبل ثلاث ليالي وجدت مسلم بن عسكر البريكي في لندن وهو يدرس هناك .فلماذا لاتذهب أنت إلى بريطانيا للدراسة فقلت له على يدك وأنا أطمح إلى الدراسة في بريطانيا واخبرته أنني أدرس هنا في المساء فقال أعطني جواز سفرك فقلت له بفرح سأحضره ، ففطن أنه لم يسألني عن نوع الجواز فقال اوووه نسيت ماهو نوع جوازك فقلت له جواز يمني فرد بسرعة قائلا لا لا يمني لا افتكرت أن لديك جواز ابوظبي فقلت له حاولت مرارا ولكنني فشلت .. فشعرت بعدها أن الكولونيل قد هبط حماسه ناحيتي وأنني بدون جواز أبوظبي لن أكون الرجل المناسب في أجندته وهو الأمر الذي اضطرني لترك الود الذي تسيد حديثنا وأن عليّ الدخول مباشرة في الجد قبل أن ينهي اللقاء .. فقلت له مساعد الحربي عندما صرنا يمنيين كرهتنا كثير من الدول ومنها بريطانيا التي كنا نجلها ونحترمها ممثلة بكم أنت وبقية القادة البريطانيين الذين كانوا في حضرموت فقال ليس كرها لكم ولكن هذا يرجع لنظام الحكم في بلدكم .
فقلت له هل لي أن أسألك عن أسباب إنهاء جيش البادية الحضرمي الذي أنتم البريطانيين أقمتوه ورعيتوه وصرفتوا عليه وجهزتوه بالأسلحة حتى أصبح من أقوى الجيوش في المنطقة واصبح له قيادات عسكرية على مستوى عالي منهم من سألتني عنهم قبل قليل وكنت أنت قائدا لهذا الجيش فما الذي جرى .. فقال هذه فترة قد انتهت وأنتم دخلتوا ضمن دولة فقلت له ونحن كنا دولة لها حكامها وإداراتها وجيوشها وأمنها ومعسكراتها ومؤسساتها المدنية وكانت قادرة على حماية نفسها ولكن أنتم من قمتم برميها إلى أحضان عصابة أبليس والمصير المجهول الذي دخلت فيه حضرموت بتدمير جيشها والاستغناء عن قياداته ومنهم من تمت تصفيته الجسدية والبعض تم وضعهم تحت الإقامة الجبرية منهم سالم عمر الجوهي وحسين المنهالي وبن سميدع وتم قتل بن سميدع وقتل وسحل الكثير من قادته وشخصيات حضرموت وعلماؤها وتجارها واخضاعها بالقوة ومصادرة املاك الناس فقال لي سعووود نحن لم يكن لنا دور فيما ذكرته من جرائم فقاطعته أدري أدري أنه لادور لكم فيه ولكنكم تخليتوا عنا فجأة بعد كل ذاك الإهتمام والحضور وصرنا إلى ماصرنا إليه من المصير المجهول .. فقال لي أنت تفكيرك راح بعيد فلا تهتم بمثل هذه الأمور حاليا وخليك في دراستك وأنا متأكد أنك ستتفهم لكثير من الأمور لاحقاً وأعذرني أنا لا أستطيع أن أتحدث معك طويلا لأن ليس لدي وقت الآن وأنا على موعد عمل بعد قليل فقلت له هل إلى هذا الحد أغاضك كلامي قال لا لم يغيضني وأنا أقدر كلما قلته وتقبلته منك بصدر رحب وتأكد إني سأهتم بكل ماذكرته لي فقلت له على كلاً انا أشكرك على رحابة صدرك وطيبتك ولو لا معرفتي بصفاتك منذ كنت صغيراً في مدرستك لما تجرأت بالحديث معك في أمور كهذه وأنا أجزم بأن ليس لك دور فيها .. مددت يدي نحوه أسمح لي الآن بالخروج فقال تفضل ومد يده نحوي مصافحاً وقلت له أعذرني إذا بدر مني مايضايقك فأنا أحترمك وكنت سعيد جدا باللقاء بك بعد هذه السنين فقال وهو يبتسم وأنا أيضا سعيد بلقائك سعود لا تهتم لأي شيء فرافقني إلى خارج الغرفة وودعته وغادرت المكان .
هذه قصة لقائي بالكولونيل البريطاني جونسون(المساعد الحربي) بكل تفاصيلها الدقيقة ومادار بيننا من حوار لم يتخلله أي تحفظ وقد حاولت منذ بداية اللقاء كسر الحاجز الذي بيننا .. وأنا هنا أُسجلها للتاريخ بكل أمانة
بقلم : سعود الشنيني
المصدر : facebook
10أغسطس2020م