من صدام إلى بوتين إلى الضياع العربي

كتب توفيق رباحي:

تصلني يوميا مقاطع فيديو تحاكي الغزو الروسي لأوكرانيا. أقصد تلك الفيديوهات التي يجري التلاعب بها لتصبح هزلية، ويصبُّ معظمها في تمجيد الغزو الروسي ويسخر من تلكؤ أمريكا والغرب في حماية أوكرانيا بعد أن حرّضاها على معاداة روسيا. مضمون تلك الفيديوهات يحيلك إلى حجم الافتتان العربي بالرئيس فلاديمير بوتين.
تقتنع بأن العرب يحبون الأقوياء ولو كانوا طغاة ظالمين.

وتقتنع أكثر بأن الصورة الأكبر تختزل حال مجتمعات عاجزة عن إدراك خطورة ما يجري من حولها. عادت بي الذاكرة 32 سنة إلى الوراء. إلى الهيستيريا الكبيرة التي أصابتنا في الجزائر (وأصابت كثيرا من الدول العربية) عندما احتل الجيش العراقي الكويت في صيف 1990. إلى الشهور التي تلت ذلك الاحتلال المشؤوم والاستعدادات لحرب ستقضي على العراق تقريبا، ونحن نطبّل ومقتنعون بأن الجيش العراقي، الخارج قبل سنتين فقط من حرب طاحنة مع إيران، سينتصر على ثلاثة أرباع جيوش العالم وهي تطوِّقه من كل صوب وتكاد تمنع عنه الشمس والهواء.

لا داعي للمقارنة بين عراق صدَّام آنذاك وروسيا بوتين اليوم. أهم من أيّ مقارنة عبثية، تشابهُ السياقين، وهذا المأزق الأخلاقي الذي يجد العرب أنفسهم فيه كلما ضربت العالم أزمة عميقة.

في العراق، الذي لم يغفر بعض أبنائه بعد للجزائريين وشعوب الـ”ضد” العربية تعاطغهم مع صدَّام حسين في احتلاله للكويت، يبرز اليوم تعاطف مماثل مع الرئيس بوتين في احتلاله لأوكرانيا. شوارع البصرة شهدت في الأيام الماضية تعليق بوسترات بوتين احتفاءً به، تماما مثلما رفع جزائريون وأردنيون وتونسيون بوسترات صدَّام قبل 32 سنة وهو يقود بلاده والمنطقة كلها إلى الجحيم. السفارة الروسية في العراق تشكر العراقيين على تعاطفهم ورغبتهم التسجيل للقتال ضد الغرب في أوكرانيا، تماما مثلما شكرت السفارة العراقية في الجزائر الجزائريين على حماسهم وتسابقهم للتسجيل في قوائم التطوع للقتال في الصفوف العراقية سنة 1990.
غير بعيد عنا، بعض الجزائريين والتونسيين وغيرهم ممن ناضلوا بشراسة في بلدَيهم ضد بوتفليقة وبن علي، لم يجدوا غضاضة في التعاطف مع بشار الأسد وهو ينكّل بشعبه أكثر بكثير مما فعل بن علي وبوتفليقة.

بالتوازي مع الافتتان ببوتين يروّج “مؤثرون” عرب لنماذج خيالية من المقاومة ضد الروس. تبدأ في أفغانستان وتنتهي في أوكرانيا مرورا بالشيشان. مرة أخرى لأننا مجتمعات تفتقد لنماذج المقاومة، نحتفي بسيّدة أوكرانية مثلا وننفخ في سيرتها لنجعل منها نموذجا نحلم به ونجلد ذاتنا على عدم وجوده بيننا. أو بشاب عربي مرَّ من أفغانستان فنروي عنه قصصا وأساطير لا تقنع حتى الأطفال.

في افتتان العرب بالأقوياء وبالنماذج الخيالية خلطة “بسيكوسياسية” صعبة. واقعنا الأسود وضَعَنا في مزيج من الإفلاس والعجز عن تحديد وجهتنا. نسير في الظلام بدون أنوار وبلا بوصلة. نعاني يُتمًا عامًا وغياب نماذج معاصرة إيجابية. هذه المعاناة النفسية المركبة تجعل الإنسان العربي يُعجب بالآخر ويتبناه. ينسحب هذا على الرياضة والفن والثقافة وغير ذلك، لكنه يصبح أكثر فجاجة عندما يتعلق الأمر بالسياسة والقوة الاستراتيجية. فشلُ الدولة الوطنية وعجزُ الإنسان العربي عن منع ذلك الفشل وعن أن يكون شريكا في صنع مصير مجتمعه، يدفعانه إلى النظر إلى خارج مساحته.

عجزُ هذا العربي، في المقابل، عن مواجهة قوى غربية يُحمِّلها مسؤولية خيباته وإحباط طموحاته، يجعله يستجدي مَن ينتقم له من هذه القوى ويبتهج ما أن يلوح له في الأفق شيء يلبي رغبته. وما احتفاء كثير من العرب ببوتين، رغم فتكه بالسوريين ومثل صدَّام، ألحق ضررا فادحا ببلاده واقتصاد شعبه، إلا دليل على ذلك.
الصورة في الغزو الروسي لأوكرانيا: الغرب ظالم بتصميمه على توسيع حلف الناتو إلى أبواب موسكو. روسيا ظالمة بغزوها أوكرانيا. الغرب ظالم بتعامله مع الموقف بمكيالين ضاربا عرض الحائط ما لا يخدم مصالحه.

صراع الأقوياء هذا وظلمهم المتكرر وضع العرب في مأزق: تعاطفهم مع الروس يعني انتصارهم لظالم. اصطفافهم مع الغرب يعني انحيازهم لظالم. الحياد لا يحل المشكلة، بل قد يجعلهم يخسرون كلا طرفي الصراع.

الأكثر إزعاجا في الأمر أن الموقف العربي، شعبيا وبدرجة أقل رسميا، مبني على أمزجة وعواطف. تعاطف العرب مع روسيا نكاية في الغرب على دعمه الدائم لإسرائيل لن يعيد للفلسطينيين حقوقهم. ابتهاج العرب بدمار أوكرانيا لأن رئيسها (مثلا) حليف قوي لإسرائيل، لا يبني أيّ وطن عربي مدمّر. الاحتفال بخطاب لبوتين هدد فيه الغرب باستعمال السلاح النووي لا يعيد للإنسان العربي كرامته المهدورة. الاحتفال بتضرر الاقتصادات الغربية من العقوبات على روسيا لا ينقذ الاقتصادات العربية المنكوبة. الطعن في نزاهة الإعلام الغربي لن يجعل الإعلام الروسي (والعربي) أفضل منه. الترويج الأحمق للـ”نيوجهاد” في أوكرانيا لا يخدم أي قضية عربية. الفرحة بارتفاع أسعار النفط إلى مستويات قياسية دليل جهل وقصر نظر (يفوت كثيرين أن كل سنت إضافي في سعر برميل النفط يعني مسًّا بالتوازن الهش للاقتصاد العالمي، ويقابله آخر في أسعار السلع التي يستوردها العرب، وما أكثرها).

الغزو الروسي لأوكرانيا وتداعياته الخطيرة حاضرا ومستقبلا جرسُ إنذار للعرب ليبدأوا التفكير في تحديد أولوياتهم بناءً على مصالحهم ووفقا لواقعية سياسية تستثني الأحكام الجاهزة، وتضع العواطف على الرف.

ما يحدث فرصة ليتعلم العرب حسن اختيار أصدقائهم وخصومهم. فرصة أيضا ليضعوا نهاية لمواسم الهستيريا.. ليتوقفوا عن الاحتفال بانتصارات هؤلاء أو التشفي في انكسارات أولئك.

يحتاج العرب بإلحاح إلى شجاعة في اختيار المواقف، وإلى شجاعة أكثر في الدفاع عنها.. وهذه فرصتهم.

المصدر: القدس العربي

اترك هنا تعليقك وشاركنا رأيك