ليس عاراً أن يدخل العدو دارك رغماً عن أنفك، لكن العار أن يخرج سالماً أمام عينيك. من هنا ينطلق اليمن، وخلفه إرث تاريخي كبير، ومدرسة عسكرية تعاملت مع مختلف الأدمغة العسكرية الغربية، حاملاً معه أيضاً الصبر الاستراتيجي الذي نسجه من خيوط إرادة صلبة ومتينة، وقبل كل ذلك ثقافة دينية متماسكة تؤمن بأن عواقب الأمور لخالقها.

تحركات أخيرة للقوات الأميركية، وتنسيق سري وعلني مع الحلفاء، أعقبتها إعادة تموضع لقوات واشنطن، وخصوصاً بعد فشل ما سُمي “تحالف الازدهار”، الذي وُلِد ميتاً.

هذه التحركات الأميركية، وسحب قواتها تباعاً من البحر الأحمر، بعثت الشكوك بشأن النيات، وخصوصاً أن العدوان على اليمن لا يزال قائماً وبوتيرةٍ متصاعدة، ودماء الأطفال والنساء والشيوخ في غزة لا تزال تنساب من بين أصابع الاحتلال وشريكه الأميركي في العدوان.

إن انسحاب حاملة الطائرات الأميركية “يو أس أس دوايت آيزنهاور”، واتجاهها إلى شرقي المتوسط، حملا عدة سيناريوهات، أحدها أن طاقم هذا الأسطول لم يكن معتاداً حرباً من هذا النوع، له هذا الزخم وهذه الجرأة، وعمل من دون إجازات وتحت وقع تأثير الأسلحة اليمنية المتطورة.

ويرى آخرون أن انسحاب “آيزنهاور” ليس إلا مجرد إعادة تموضع للقوات البحرية الأميركية، وأن التخفيف من وجود القوات في البحر الأحمر سيقلل من تكاليف التصدي للأسلحة اليمنية.

أما بالنسبة للسيناريوهات الأخرى، فإن أخطرها يتعلق بإرسال الطائرات الحربية الأميركية إلى مطارات سعودية، وهذا يشير إلى وجود تنسيق أميركي مع حلفاء واشنطن، بهدف إشعال حرب جديدة في اليمن، وخاصة بعد تلميحات سعودية للتهدئة خلال الأشهر الماضية فيما يتعلق بالبحر الأحمر. ولاحظنا أيضًا توقف المفاوضات والتماطل السعودي في تنفيذ ما تم التوصل إليه في جلسات المفاوضات.

صنعاء تدرس هذا السيناريو جيداً، وتنظر إليه في سياق المؤامرات الأميركية المعروفة، بينما كان إعلان واشنطن ما يسمى “تحالف الازدهار” استجابةً لضغوط اللوبي الإسرائيلي، وأساليب رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، الذي يستغل ولاية الرئيس الأميركي الحالي، جو بايدن.

وأمام هذه السيناريوهات، كان رد اليمن عالياً، إذ شنّت القوات المسلحة عدة عمليات ضدّ سفن إسرائيلية في المحيط الهندي، وأخرى حربية أميركية في البحر الأحمر، كما أطلقت عمليةً في اتجاه أم الرشراش المحتلة: “إيلات”.

أثارت الاستجابة العسكرية اليمنية لكل التحركات والتكتيكات في المناطق البحرية للبحر الأحمر وبحر العرب شعور الإحباط في العقلية الأميركية، حيث كانت تعتقد بعد انسحاب بعض قواتها من سواحل اليمن أنه سيؤدي إلى تعزيز جهود التهدئة. ومع ذلك، كانت لدى صنعاء تصوراتها الخاصة التي صدمت أعداءها كالعادة، حيث تشدد دائمًا على أن الحل يكمن في وقف العدوان على غزة وتوفير المساعدات، وليس في إعادة التموضع أو تدبير الأمور تحت الطاولة.

أربعة أشهر أمضتها “آيزنهاور” والسفن المرافقة لها في البحر الاحمر، لتعود إلى البحر المتوسط بعد تصريحات الأدميرال مارك ميغويز، وهو قائد المجموعة الضاربة الثانية، والذي علق على دخول الزوارق اليمنية المسيرة بقوله: “إنه تهديد غير معروف، وليس لدينا الكثير من المعلومات عنه، ويمكن أن يكون مميتاً”.

لقد تفاجأ الأميركيون وحلفاؤهم بمسرح عمليات معقد وصعب ومكشوف، وفوجئوا أيضاً بحرب استنزاف، فسحبت بريطانيا مدمّرتها “دايموند”. وفي إثر ذلك كان قرار الدنمارك، ثمّ فرنسا وألمانيا، وليس انتهاءً بالولايات المتحدة.

هذه الانسحابات المتتالية يقرأها البعض على أنها خطوات جيدة، لكنها غير مرضية بالنسبة إلى اليمن، الذي دخل المعركة ورفع السقف منذ البداية، والتفّت حول موقفه الشعوب العربية، وهتفت باسمه الجماهير الغربية.

في ضوء ما تقدم، فإن اليمن يدرك تماماً ما تمثّله الانسحابات من البحر الأحمر، وهو ينصح ذوي القربى وجاره الذي ارتكب خطأ الحرب على اليمن، بعدم المماطلة أو التآمر. وجاء ذلك على لسان رئيس المجلس السياسي الأعلى، مهدي المشاط، الذي ذكّر بنصح قائد أنصار الله، السيد عبد الملك الحوثي، وأعاد إلى واجهة الاهتمام ملف المفاوضات اليمنية – السعودية، وبعث رسائله إلى رياض قائلاً: “نحذّر من أي تصعيد أميركي ضدّ أمن اليمن واستقراره. والتحضيرات المشبوهة الجارية لثني اليمن وإضعاف دوره الفاعل والمؤثّر، والمنطلق من الواجب، دينياً وإنسانياً، دفاعاً عن فلسطين، ستبوء بالفشل”.

وأضافت صنعاء، على لسان المشاط ومجلسها السياسي، أن “تداعيات أي تصعيد لن تقف عند حدود اليمن”، في إشارة إلى احتمال اشتعال المنطقة بأسرها، في حال فكر العدو باللعب بالنار واستخدام أوراقه الداخلية أو الخارجية.

وكتذكير للسعودية، قام المجلس السياسي الأعلى، الذي يرأس تحالف الحرب على اليمن، بإرسال رسالة تذكيرية تحثها على أنه يجب أن تضع مصلحتها الوطنية فوق المصلحة الأميركية، خاصة فيما يتعلق بالمسار التفاوضي في اليمن، وأنها يجب أن تتقدم بخطوات إيجابية لاستكمال هذا المسار وعدم التباطؤ أو التراجع عنه.

إنها تطورات متسارعة قد تلقي ظلالها إيجاباً على القضية الفلسطينية، وقد تشعل النار مجدداً في عباءة المملكة السعودية وسفنها العابرة من البحر الأحمر، وفي جسد اليمن العربي الأصيل.

اترك هنا تعليقك وشاركنا رأيك